إن علم أصول الفقه عِلم جليلُ القدر، بالغ الأهمية غزير الفائدة؛ تكمن أهميته في التمكُّن من حصول القدرة أو الكفاءة التي يستطيع بها الجارس أو الباحث استِخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية على أسُس سليمة؛ والمقصود بالأدلة التفصيلية هي القرآن والسنة.
فهذا العلم العظيم من الأهمية بمكانٍ، لذلك يَنبغي لطالب العلم وخاصة طالب العلوم الإسلامية أن يولي الاهتمام اللازم والاعتناء التام بعلم أصول الفقه وقد قيل ( من حُرِمَ علم الأصول، حُرِمَ الوصول، أي حرم الوصول إلى مختلف علوم الشريعة الإسلامية
وها نحن نضع بين أيدي طلبتنا هذه المحاضرات المتعلقة بالمدخل إلى علم أصول الفقه المقرر على السنة أولى ليسانس تخصص علوم إسلامية راجين أن ينفع الله بها كل مريد للنفع
محاضرات في علم أصول الفقه
إعداد الأستاذ الدكتور: هزرشي عبد الرحمان
موجهة لطلبة السنة الأولى علوم إسلامية
الموسم الجامعي 2025 / 2026
مقدمة :
التعريف بعلم أصول الفقه :
أصول الفقه اسم مركب من مضاف ومضاف إليه كلمة " أصول " وكلمة " الفقه " وتعريفه يقتضي معرفة جزأيه ، فنبدأ بتعريف المضاف إليه المعرف وهو الفقه، ثم ننتقل لتعريف المضاف أصول .
تعريف الفقه:
الفقه لغة : هو الفقهم مطلقا ، قال تعالى : " قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول " [1]، أي لا نفهم كثيرا مما تقوله بشأن الإيمان بالله واليوم الآخر وأمور الدين، وقال تعالى على لسان موسى عليه السلام " واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي "[2] أي يفهموا قولي .وقال تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " [3] .
الفقه اصطلاحا : هو : " العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية " [4].
شرح التعريف :
العلم : يقصد بالعلم الإدراك للأشياء، وقد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا، والعلم هو مجموعة المعارف المندرجة تحت هدف كلي ، فنقول علم الطب ، علم الفلك ، علم النحو ... وهكذا.
الأحكام : جمع حكم وهو إثبات أمر لآخر إيحابا أو سلبا كقولنا : القاعة كبيرة فنحكم بكبر القاعة ، الطلاب حاضرون ، أو تقول القاعة غير ملائمة ، الطلاب غير حاضرين .
والمقصود بالأحكام هنا ما يثبت للمكلفين من وجوب وندب وحرمة ..... مثل قولنا : الصلاة واجبة ، الطهارة شرط صحة للصلاة ، القصر في الصلاة رخصة ، طلب العلم فريضة .
الشرعية : أي الأحكام المنسوبة بالشريع والمتعلقة بالشريعة الإسلامية، وبهذا القيد " الشرعية " أخرد الأحكام المتعلقة بالعلوم الأخرى فعندما تقول : " العبارة صحيحة " فهذا حكم لغوي ، وعندما تقول هذا الدواء نافع للمعدة فهذا حكم طبي ...
العملية : أي الأحكام العملية المتعلقة بأعمال الجوارح من عبادات ومعاملات كالصلاة والزكاة والزواج والطلاق والبيع والإيجار وغيرها من الأحكام العملية، وقد أخرج بهذا القيد أعمال القلوب كالإيمان بالله واليوم الآخر ....
المكتسب : أي العلم الذي يحصل بالاجتهاد وبذل الوسع في فهم الأدلة، وعلى هذا فعلم المقلد لا يعتبر فقها وفقا لهذا التعريف.
من أدلتها التفصيلية: فالأدلة هي وسيلة اكتساب العلم والمقصود بالأدلة التفصيلية أي الجزئية الخاصة بكل مسألة من مسائل الفقه وهو ما يفرقها عن الأدلة المجملة التي هي أدلة أصول الفقه، ومن الأمثلة على ذلك :
مثال1 : قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ
الأنثيين )[5]
فهذا الدليل التفصيلي من القرآن أفاد حكما هو أن نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى
بالنسبة لأبناء الميت.
مثال 2 : ( حرمت عليكم الميتة ) [6]فهذا الدليل التفصيلي من القرآن أفاد حكما فقهيا جزئيا هو تحريم أكل لحم الميتة.
مثال 3 : ( كتب عليكم القتال وهوكره لكم )[7] هذا دليل تفصيلي تضمن حكما عمليا وهووجوب الجهاد في سبيل الله.
مثال 4 : قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام )[8] ، فهذا الحديث هو دليل تفصيلي تضمن حكما شرعيا عمليا وهو تحريم دماءالمسلمين وأموالهم وأعراضهم.
وكذا قياس بعض الأحكام التي لم يرد فيها دليل على أحكام أخرى ورد بها الدليل هو دليل تفصيلي ، أو حكم ثبت بالمصلحة المرسلة ....
تعريف أصول :
التعريف اللغوي : أصول جمع كلمة أصل وتُجمع على أصُلٌ وأصول، والأصل ما يبنى عليه غيره ، يقال : أصل الشجرة أي جذعها وأصل الجدار أي أساسه،
التعريف الاصطلاحي : يطلق الأصل على عدة معان منها:
القاعدة المستمرة : ومنه قول علماء أصول الفقه " الأصل أن الخاص مقدم على العام عند التعارض " أي القاعدة في ذلك، ويقول علماء النحو: " الأصل في المبتدإ التقديم وفي الخبر التأخير " أي القاعدة المستمرة في كلام العرب، ويقول علماء البلاغة العربية : " الأصل في الكلامالحقيقة لا المجاز ".
تعريف أصول الفقه باعتباره علما : هو مجموعة القواعد التي يُوصِل البحثُ فيها إلى استنباط الأحكام الفقهية العملية من أدلتها التفصيلية[9] .
شرح التعريف :
القواعد : جمع قاعدة وهي القاعدة الكلية التي التي تعرف منها الجزئيات المندرجة تحت موضوعاتها،
التي يوصل البحث فيها : أي أن هذه القواعد تكون وسيلة للمجتهد لمعرفة الأحكام وأخذها من الأدلة، وبالتالي فقد أخرج القواعد التي لا تكون وسيلة لاسنباط الأحكام الفقهية العملية ، كقواعد النحو والهندسة وقواعد علم الاجتماع .
موضوع علم أصول الفقه: فانطلاقا من تعريف علم أصول الفقه نعرف أن موضوع علم أصول الفقه هو دراسة القواعد والمبادئ التي يستخدمها الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، فموضوع أصول الفقه هو الدليل الكلي من حيث إثباته للأحكام، فموضوعات علم أصول الفقه هي :
الحكم الشرعي بفرعيه الحكم التكليفي : الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، والحكم الوضعي : الشرط والمانع والرخصة والعزيمة.
الأدلة الشرعية: القرآن والسنة والقياس والإجماع.
دلالة الألفاظ : وكيفية الاستفادة ، كالأمر والنهي، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمفهوم والمنطوق .
مثال المطلق والمقيد : قال تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم )[10].
وقال تعالى: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم جنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به )[11].
فكلمة الدم ذكرت في الاية الأولى مطلقة وفي الآية الثانية قيدت بكون الدم مسفوحا.
المفهوم: إن رسول الله ص سئل عن سؤرالقطة قال: ( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات )[12] لماذا فرق رسول الله ص بين لعاب الكلب ولعاب القطة فقال طهورإناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات إحداهن بالتراب أو قال أولاهن بالتراب)[13].
الاجتهاد وصفات المجتهد وشروطه .
أهمية دراسة علم أصول الفقه: هي القواعد التي تمكن الفقيه من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية،ومن هنا تكمن أهمية دزاسة أصول الفقه فقواعد أصول الفقه لها أهمية كبيرة نظرا للهدف منها وهو استنباط الأحكام الشرعية وفضلا عن ذلك فله فوائد متعددة نذكر منها:
01 - الاستنباط الدقيق للأحكام وذلك بمعرفة طرق الاستنباط وكيفية تطبيقها.
02 - تيسير الاجتهاد في القضايا المستجدة التي تحدث ولم يرد فيها نص شرعي.
03 - حماية الشريعة الإسلامية من الانحراف وذلك بوضع القواعد والضوابط لفهم النصوص الشرعية ومنع تفسير النصوص بالهوى أو الرأي المجرد عن الاجتهاد الصحيح والفكر السليم.
04 – فهم تراث الأئمة والمذاهب فعلم أصول الفقه يمكن الدارس من فهمواستيعاب أدلة الفقهاء وآراء المذاهب وطرق اجتهادهم وقواعد الترجيح بين الأقوال والآراء.
05 – ضمان منهجية صحيحة لفهم الشريعة الإسلامية بعيدا عن الأهواء والميولات.
نشأة علم أصول الفقه وتطوره:
1 - مرحلة ما قبل التدوين : نشأ علم أصول الفقه مسايرا لحركة الاجتهاد الفقهي، فقد كانت قواعد أصول الفقه معروفة لدى المجتهدين يستخدمونها في اجتهادهم وفتاواهم ولا يعبرون عنها إلا قليلا، فكانوا يعرفون القواعد المتعلقة بالقياس والناسخ والمنسوخ ويعرفون المنطوق والمفهوم دون أن تكون مدونة في الكتب .
2 - مرحلة التدوين : بداية من الإمام الشافعي في أواخر القرن الثاني الهجري حوالي 192 هـ ، ثم توالت الكتابات في علم أصول الفقه وظهرت مدرستان في التأليف في أصول الفقه هما : مدرسة الفقهاء ومدرسة المتكلمين .
أ - طريقة المتكلمين : اهتم أصحاب هذا المنهج بتحرير القواعد مجردة من المسائل الفقهية ووضع المقاييس مع الاستدلال العقلي ومن غير نظر إلى مذهب معين، سار عليها جمهور العلماء من المالكية والحنابلة والظاهرية والمعتزلة ومن سائر المذاهب وانتشرت في أغلب الأمصار.
ب - طريقة الفقهاء: تأخر ظهور هذه المدرسة بالمقارنة مع مدرسة المتكلمين، سارت هذه الطريقة باتجاه التأثر بالفروع الفقهية، واثبات سلامة الاجتهاد فيها، فهي تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نُقل من الفروع الفقهية عن آئمة كبار الحنفية، لإثبات القواعد التي لاحظها أولئك الأئمة عندما اجتهدوا في الفروع، فهي في واقعها أصول تأخر وجودها واستخراجها عن استنباط الفروع .
ج - مقارنة بين المدرستين : يلاحظ أن منهج المتكلمين منهج تجريدي يجعل القواعد الأصولية مقياسا للاستنباط ومعيارا له، بينما يمتاز منهج الفقهاء بأنه منهج عملي تطبيقي، ينطلق من المسائل الفقهية والاستدلال بها على القواعد الأصولية لتكون مقررة لها، فهذه الطريقة سارت باتجاه التأثر بالفروع، واثبات سلامة الاجتهاد فيها، فهي تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نُقل من الفروع عن الأئمة المجتهدين عندما فرعوا الفروع، ولهذا فأصول المتكلمين قوانين للاستنباط وحاكمة عليه وموجهة له أما أصول الفقهاء فإنها مقررة لما هو موجود من أحكام فقهية .
الحكم الشرعي وأقسامه
الحكم الشرعي : هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا.[14]
فالحكم عند الأصوليين هو نفس الخطاب الشرعي .
شرح التعريف :
خطاب الله : هو كلام الله جل وعلا، ويقصد به القرآن، وأيضاً تدخل معه السنة.
المتعلق بأفعال المكلفين أي ما يتعلق بالأفعال لا الاعتقادات مثل الإيمان أو صفات الله، أو عذاب القبر ونعيمه، فهذا لا يبحث فيه الأصوليون.
الاقتضاء: هو الإلزام بالفعل أو بالترك.
والإلزام بالفعل يعني: الوجوب، وينسحب معه الاستحباب، والمستحب لابد من أمر شرعي فيه يأمر الله به.
والإلزام بالترك هو التحريم، وينسحب معه المكروه.
والوضع هو: جعل شيء سبباً لشيء آخر أو شرطا أو مانعا. كجعل غروب الشمس سببا لوجوب صلاة المغرب ، ورؤية هلال شهر رمضان لوجوب الصيام .
وأن يحعل القتل العمد سببا لمنع الميراث .
أقسام الحكم الشرعي
الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: حكم تكليفي، وحكم وضعي.
فالحكم التكليفي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير[15] فقط، فيدخل فيه الواجب والمستحب والحرام والمكروه والمندوب.
الحكم الوضعي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالوضع فقط، فيدخل فيه السبب والشرط والمانع والصحة والبطلان[16].
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي :
الحكم التكليفي له أوقات وعلامات وأسباب، وأما الحكم الوضعي فليس له ذلك، والحكم التكليفي يقصد منه الطلب أي التكليف، أما الحكم الوضعي فلا يتطلب ذلك، والحكم التكليفي أمر يستطيع المكلف فعله أو تركه، بينما الحكم الوضعي قد يكون في مقدور المكلف أو قد لا يكون.
مثال ذلك: الزكاة في مال الصبي : الصبي غير مكلف، فلا يؤمر بالصلاة ولا بالحج ولا بالجهاد، لأن هذه كلها من خطاب التكليف ، لكنه يؤمر بإخراج الزكاة من ماله، فلو أن هناك صبياً عنده مال بلغ النصاب وحال عليه الحول، فلا بد أن يزكى هذا المال؛ وهذا من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف ، فبلوغ النصاب شرط في وجوب الزكاة.
كذلك لو أن صبيا كان يلعب في الشارع فكسر زجاج سيارة أو أتلف شيئاً لبائع، فإن الولي يأخذ من مال هذا الطفل ليضمن هذا المتلف، فالإتلاف سبب للضمان وهذا من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف أيضاً.
أقسام الحكم التكليفي:
خطاب التكليف له خمسة أقسام: الواجب، المندوب، المباح، المحرم، المكروه.
الواجب
تعريف الواجب:
الواجب لغة: هو الساقط، قال الله تعالى: ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا )[17] ، أي: أن الإبل عندما تنحر وهي واقفة، فتسقط على الجنب، ثم لك أن تذبح بعد ذلك وتأكل وتعطي القانع والمعتر.
الواجب اصطلاحا: هو طلب الفعل على وجه اللزوم.[18]
أو هو: ما ذُم تاركه شرعاً مطلقاً[19]. مثل الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والوفاء بالعقود، ورد الامانات.
صيغ الواجب:
1 - فعل الأمر كقوله تعالى: ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ )
2 - الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيق ).
3 - اسم فعل الأمر كقوله تعالى : ( عَليكم أَنفُسَكم )
4 - المصدر النائب عن فعل الأمر، كقوله تعالى: ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ).
5 - التصريح من الشارع بلفظ الأمر كقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ).
6 - التصريح بلفظ الإيجاب أو الفرض، أو الكتب كقوله تعالى : ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ )، وقوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ).
7 - كل أسلوب يفيد الوجوب في لغة العرب كقوله تعالى: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ).
8 - ترتيب الذم والعقاب على ترك الفعل، كقوله تعالى: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ )
الواجب والفرض
يطلق الجمهور على الواجب لفظ الفرض ولا يفرقون بينهما ، بينما يفرق الحنفية بين الواجب والفرض،
ووجه الفرعندهم : أن " الفرض " اسم لما ثبت حُكمه بدليل مقطوع به، كالآية والحديث المتواتر اللَّذَين قد قُطع بدلالتهما على الحكم، والإجماع الصريح الذي نقل إلينا نقلاً متواتراً.
بينما " الواجب " فهو اسم لما ثبت حكمه بدليل ظني كخبر الواحد، والإجماع السكوتي، والقياس، وجميع دلالات الألفاظ الظنية[20].
أقسام الواجب : يقسم الواجب باعتبارات مختلفة نفصلها فيما يلي:
1. تقسيم الواجب من حيث الفاعل ( المطالب بالأداء ): يقسم الواجب باعتبار المكلف به إلى:
· الواجب العيني: ما طلب الشرع فعله من كل فرد مكلف بذاته . مثل: الصلوات الخمس، والحج، والوفاء بالعقود.
· الواجب الكفائي: ما طلب الشرع فعله من جماعة من المسلمين، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع، مثل صلاة الجنازة وتعلم العلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكروالقضاء والإفتاء، والقيام بالصناعات والحرف والمهن كالطب والتجارة، وسائر الخدمات التي يحتاجها المجتمع.
فهذه الواجبات طلب للشارع إيجادها في الأمة بغض النظر عمن يقوم بها، وليس مطلوبا أن يقوم بها كل فرد ؛ لأن المصلحة تتحقق بوجودها في بعض المكلفين ولا تتوقف على قيام كل مكلف بها.
إذا تعيّن فردٌ لأداء الواجب الكفائي كان واجبا عينيا عليه، فلو شهد الغريقَ شخصٌ واحدٌ يحسن السباحة تعين عليه إنقاذه ، ولو لم ير الحادثة إلا واحدٌ ودُعي للشهادة تعينت عليه، ولو لم يوجد في البلد إلا طبيبٌ واحدٌ تعين عليه إسعافُ المريض؛ فهؤلاء الذين تعينوا لأداء الواجب الكفائي، ينقلب الواجب بالنسبة إليهم واجبا عينا[21].
2. من حيث الفعل المطلوب: يقسم الواجب باعتبار الفعل المطلوب إلى:
· الواجب المعين: ما حدد الشرع فعله بعينه، فلا يصح غيره. مثال: الصلوات والصيام والحج، وثمن الشيء المشترى، وأجر المستأجر، بحيث لا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائه بعينه.
· الواجب المخير: ما خير الشرع المكلف فيه بين أفعال محصورة، فإذ اقام بواحد منها أجزأه. مثال: كفارة اليمين (إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة)، ويبقى الخيار فيه للمكلف فيقوم بأحد تلك الأفعال فإذا فعل واحدة منها أجزأه.
3. تقسيم الواجب من حيث المقدار: ينقسم الواجب من حيث مقدار الفعل المطلوب إلى قسمين:
· الواجب المحدد: ما قدره الشارع بحد معين، كالصلوات، والصيام، والزكاة، والديون المالية، وتبقى ذمة المكلف مشغولة بها حتى يؤديها بمقدارها المحدد .
· الواجب غير المحدد: ما لم يقدره الشارع بحد معين بل طلبه من غير تحديد المقدار، كالإنفاق في سبيل الله، وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف، والمقدارفي هذه الفروض غير محدد، بل يتحدد تبعا للحاجة والظروف والأحوال.
4. وينبني على هذا التقسيم: أن الواجب المحدد يجب ديناً في الذمة، وتجوز المطالبة به أمام القضاء، وأن الواجب غير المحدد لا يجب ديناً في الذمة ولا تجوز المطالبة به أمام القضاء، لأن الذمة لا تشغل إلا بمعين والمقاضاة لا تكون إلا بمعين.
ولهذا من رأى أن نفقة الزوجة الواجبة على زوجها، ونفقة القريب الواجبة على قريبه واجب غير محدد، لأنه لا يُعرف مقداره، قال: إن ذمة الزوج أو القريب غير مشغولة به قبل القضاء، وليس للزوجة أو القريب أن يطالب به إلا بعد القضاء لأن الحكم القضائي يحدده.
ومن رأى أنها من الواجب المحدد المقدر بحال الزوج أو بما يكفي للقريب، قال إنهما واجب محدد في الذمة فتصح المطالبة به بواسطة القضاء.
5. تقسيم الواجب من حيث وقت الأداء: ينقسم الواجب من حيث وقت الأداء إلى قسمين:
· الواجب المؤقت: ما حدد له الشارع وقتاً معيناً له بداية ونهاية، لا يمكن أداؤه في غير زمنه المحدد، كالصلوات فقد حدد لها الشارع وقتا معينا لا يصح أن تُؤدى قبله، ويأثم المكلف لإذا أخرها عن وقتها والصيام.
والواجب المؤقت إن كان وقته الذي حدده الشارع يسع الفعل ويسع غيره من جنسه سُمي هذا الوقت موسَّعاً ، مثاله : صلاة الظهر ، فالوقت المحدد لأدائها وقت موسع يسع أداء الظهر وأداء أي صلاة أخرى، وللمكلف أن يؤدي الظهر في أي جزء من ذلك الوقت.
وإن كان وقته الذي حدده الشارع يسع الفعل ولا يسع غيره من جنسه سمي هذا الوقت مضيَّقاً ، مثال ذلك صيام شهر رمضان فهو مضيق لا يسع إلا صوم رمضان ولا يمكن للمكلف أداء صيام آخر مع صيام شهر رمضان.
إن الواجب الموسع يجب على المكلف أن يعينه بالنية حين الآداء في وقته، لأنه إذا لم ينوه بالتعيين لا يجزئه ذلك ، فمثلا إذا صلى الشخص في وقت الظهر أربع ركعات فإن نوى بها تأدية صلاة الظهر كان ذلك أداء لها، وإذا لم ينو بها أداء صلاة الظهر لم تكن صلاته أداء لها، ولو نوى التطوع كانت صلاته تطوعا.
وأما الواجب المضيق فلا يجب على المكلف أن يعيّنه بالنية حين أدائه في وقته، لآن الوقت معيار له لا يسع غيره من جنسه فبمجرد النية ينصرف ما نواه إلى الواجب، فإذا نوى في شهر رمضان الصيام مطلقا ولم يعين بالنية الصيام المفروض انصرف صيامه إلى الصيام المفروض، ولو نوى التطوع لم يكن صومه تطوعا بل كان المفروض، لأن الشهر لا يسع صوما غيره
· الواجب المطلق : ما لم يحدد الشرع له وقتاً معيناً، كالكفارات والنذور،وتبرأ الذمة بتأديته دون النظر للوقت.
المندوب
الندب لغة : هو الدعاء إلى الأمر المهم، والمندوب: المدعو إليه، وندب القوم َ إلى الأمر دعاهم وحثهم[22] ومنه قول الشاعر:
لاَ يَسْأَلُونَ أَخَاهم حينَ يَندُبُهم للنَّائِبَاتِ على ما قَالَ بُرهَانا[23]
المندوب اصطلاحا: هوما طلب الشارع فعله من غيرإلزام، بحيث يمدح فاعله ويثاب، ولا يذم تاركه ولا يعاقب ، وقد يلحقه اللوم والعتاب على ترك يعض أنواع المندوب.
شرح التعريف :
ما طلب الشارع فعله:وذلك بخطاب الله الاقتضائي، أي الأمر فيخرج الحرام والمكروه لأنه نهي، ويخرج به المباح لأنه تخيير.
طلبا غير جازم : فيخرج به الواجبلأن الشارع طلب فعله طلبا جازما.
حكم المندوب : إن فاعل المندوب مطيع يستحق الثواب والأجر من الله، وتاركه ليس عاصيا فلا يستحق العقاب.
صيغ الندب :ويدل على كون الفعل مندوباً
1- صيغة الطلب الصريح، إذا اقترن بها ما يدل على ارادة الندب لا الإلزام، سواء كانت هذه القرينة نصاً أو غيره.
فقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ»[24]
لا يدل هذا الطلب على الحتم والإلزام، بقرينة ما ورد في سياق الآية وهو قوله
تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ)[25] فهذا النص يدل على أن طلب كتابة
الدين إنما يُراد به الندب لا اللزوم، فهو من قبيل الإرشاد للعباد لما يحفظون به
حقوقهم من الضياع، فإذا لم يأخذوا بهذا الإرشاد تحملوا هم نتيجة إهمالهم.
وقوله تعالى: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً )[26] ،لايدل على وجوب المكاتبة، بقرينة القاعدة الشرعية: إن المالك حر في التصرف في ملكه، فيدل على أنالأمر قد صرف من الوجوب للاستحباب .
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) ، لا يدل على وجوب النكاح على كل مكلف، بقرينة ما عرف بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يلزم كل مكلف بالنكاح، ولو مع قدرته عليه.
2 - التعبير الصريح بلفظ الندب : أو السنة ومنه قوله ص في قيام رمضان ( سننت لكم قيامه )[27]
3 – عدم ترتيب العقوبة على لترك الفعل مع طلبه من الشارع، كقوله ص : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )[28]فلم يرتب العقوبة على ترك الرخصة فدل على الاستحباب.
4 – عدم مواظبة الرسول ص على الفعل في أغلب الأحيان وتركه في بعض الحالات ليدل على أن الفعل غير معاقب على تركه كالسنن الراتبة بعد الصلوات وقبلها.
5 – الأساليب التي تدل على عدم الإلزام مثل قوله ص : ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل )[29]، وقوله : ( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده )[30]فهذه الأحاديث تدل على طلب الفعل ولكن ليس على سبيل الإلزام، لأن الطلب جاء مقتصرا على التحبيب في الفعل وبيان فضله والترغيب فيه.
أسماء المندوب: يطلق على المندوب ألفاظ: السنة، والناقلة، والمستحب، والتطوع، والإحسان، والفضيلة، وكلها ألفاظ متقاربة المعنى تشير الى معنى المندوب، وهو طلب الفعل من غير إلزام.
مراتب المندوب :والمندوب على مراتب:
السنة المؤكدة: وهو ما يثاب عليه فاعله ولا يعاقب تاركه، لكنه يستحق اللوم والعتاب، فالفعل مندوب على وجه التأكيد، وهي أعلى درجات المندوب، والقاعدة في معرفة السنة المؤكدة هو ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه إلا نادراً ليبين جواز الترك، كصلاة الفجر، والشفع والوتر، وصلاة العيدين، والمضمضة والاستنشاق في الوضوء، والأذان فهومن شعائر الإسلام المتعلقة بمصلحة دينية عامة، فلا يحوز التهاون به، ولهذا إذا تواطأ أهل قرية على تركه حُملوا عليه قسراً.
السُّنَّة غير المؤكدة : مايثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ولا يستحق العتاب على ترك الفعل، وهي التي لم يداوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم،وإنما كان يفعله في بعض الأحيان، ويسمىنافلة وتطوعا، كصلاة أربع ركعات قبل الظهر، وكصدقة التطوع .
الفضيلة : وهي ما يثاب عليه فاعله إن نوى بها متابعة النبي ص والاقتداء به، ولا شي على تاركها، وتسمى الأدب وتلي هذه المرتبة كالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في شؤونه الاعتيادية التي صدرت منه بصفته إنساناً، كطريقته ص في الأكل والشرب والنوم، فالاقتداء به عليه الصلاة والسلام في هذه الأمور مستحب ويدل على تعلق المقتدي به - عليه الصلاة والسلام -، ولكن تاركها لا يستحق لوماً ولا عتاباً لأنها ليست من أمور الدين، ولم تجر مجرى العبادات، ولكنها من العادات.
هل المندوب مأمور به: اتفق الفقهاء على أن المندوب مأمور به واختلفوا في طبيعة الأمر على قولين، فيرى الجمهورمن المالكية والشافعية والحنابلة والمحققين من الحنفية أن المندوب مأمور به حقيقة، بينما ذهب بعض الأصوليين إلى أن المندوب مأمور به مجازا وليس حقيقة.
استدل الفريق الأول بما يلي :
1 – أن المندوب مأمور به لأنه يسمى طاعة، والطاعة تكون بامتثال الأمر.
2 – قالوا : إن الأمر ينقسمإلى قسمين : أمر إيجاب وأمر ندب .
3 – المندوب مطلوب كالواجب، غير أن الواجب مطلوب مع ذم الترك للفعل، بينما المندوب مطلوب من الشارع مع عدم ذم التارك، وعليه فالمندوب مأمور به.
استدل الفريق الثاني :بما يلي:
1 – لو كان المندوب مأمورا به حقيقة لكان تركه يوجب العقاب لمخالفة الأمر ، مع أن ترك المندوب لا يوجب إثما بالاتفاق، فكام المندوب مأمور به مجازا .
الجواب : الندب اقتضاء لا تخيير فيه، لأن التخيير تسوية بين الفعل والترك، فإذا ترجحت جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير، أما المعصية فهي مخالفة أمر الإيجاب وقد أسقط الشارع الذم على ترك المندوب.
2 – استدلوا بالحديث : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )[31]، فالسواك مندوب ولم يأمر به رسول الله ص .
الجواب: أن الأمر المقصود في الحديث أمر الإيجاب لا أمر الندب.
والخلاف لفظي لا ينبني عليه عمل، ولا طائل من البحث فيه، فلا يترتب عليه اختلاف في الأحكام.
حكم الشروع في المندوب: اختلف العلماء في مسألة لزوم المندوب بالشروع فيه، على قولين: فمنهم من يرى أن المكلف إذا شرع في المندوب وجب عليه إكماله، وإن تركه وجب عليه قضاؤه، واستدل كل فريق بمجموعة من الأدلة وسنفصل في هذه الأدلة و الحجج.
الرأي الأول : يرى المالكية والحنفية أن المندوب يجب بالشروع فيه واستدلوا بما يلي:
1 – قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم )[32].
2- القياس: واستدلوا بقياس المندوب على النذر، فالشروع في المندوب كالنذر، لأن النذر التزام قولي والناذر قبل النذر مخير بين الفعل وعدمه، وبعد الكلام أصبح واجبا، والمندوب كذلك لأن المكلف كان قبل الشروع فيه مخير بين الفعل والترك،وبعد الشروع ينقلب إلى واجب لأن الفعل أقوى من القول.
الجواب : هذا قياس مع الفارق لأن الناذر ألزم نفسه بما نذره، والشروع في المندوب هو أداء لبعضه بنية التطوع وليس بنية الوجوب.
الرأي الثاني : ويرى الشافعية أن المندوب لا يجب بالشروع فيه ويبقى على استحبابه ، ولا يجب إتمامه ، إن لم يتمه الفاعل فلا إثم عليه، واستدلوا بما يلي:
1 – أن المندوب يجوز للمكلف تركه في البدء فيجوز كذلك بعد الشروع فيه، والمكلف مخير بين الاستمراروالترك، فالمندوب لا يتغير حكمه حكمه بالشروع فيه.
2 – استدلوا بحديث : ( الصائم أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر )[33]
الترجيح : الراجح هو قول الشافعية ، فالمندوب لا يجب بالشروع فيه إلا الحج والعمرة الخروج منهما لقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله )[34].
ملاحظة:
1- إن المندوبات بجملتها تعتبر مقدمة للواجبات وتُذكربها ويسهل على المكلف أداء الواجبات، لأن المكلف عندما يداوم على المندوبات يسهل عليه أداء الواجبات ويعتادها، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: " المندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم وجدته خادمأ للواجب، لأنه إما مقدمةٌ له، او تذكارٌ به سواء أكان من جنسه واجب أم لا "[35]
2 - إن المندوب وإن كان غير لازم بالنظر إلى الجزء، إلا أنه لازم باعتبار الكل، بمعنى أنه لا يصح للمكلف أن يترك المندوبات جملة واحدة، فهذا قادح في عدالته، ويستحق عليه التأديب والزجر، ولهذا هم النبي عليه الصلاة والسلام أن يحرق بيوت المداومين على ترك الصلاة جماعةً، فالأذان وصلاة الجماعة وصدقة التطوع وسنة الفجر، كلها مندوبة من حيث الجزء، لازمة من حيث الكل، فلا يصحّ تركها جملةٍ.
ومنه أيضاً: النكاح، فلا يصح تركه من قِبَل الأمة كلها، لأن في هذا الترك فناءها، فهو مندوب من حيث الجزء، أي بالنسبة للأفراد، واجب بالنسبة للجماعة، فهو كأنه فرض كفاية " فترك المندوبات كلها مؤثر في أوضاع للدين إذا كان الترك دائماً، أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له[36].
الحرام
تعريف الحرام:
الحرام لغة : الممتنع قوله والممنوع فعله[37]، كقول الشاعر :
تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكم علي إذن حرام[38]
الحرام اصطلاحا : ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم والإلزام ، أو هو ما يذم شرعا فاعله ويمدح تاركه.
شرح التعريف :
ما: اسم موصول، صفة لفعل المكلف.
طلب الشارع تركه: أي: الابتعاد عنه وعدم القيام به، ويدخل فيه الحرام والمكروه؛ لأن الشارع طلب تركهما، ويخرج من التعريف المباح والمندوب والواجب لعدم طلب تركها من الشارع.
على وجه الحتم والإلزام: فيخرج المكروه، ويبقى الحرام.
أسماء الحرام : المحظور،المعصية ، الذنب ، الممنوع ، القبيح، السيئة ، الفاحشة ، الإثم .
الأساليب التي تفيد التحريم :
1 – أن يكون اللفظ صريحا بالتحريم ، كقوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ...)[39] وقوله تعالى : ( وأحل الله البيع وحرم الربا )[40] ، ومنه قوله ص : ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)[41]
2 – صيغة النهي : قال تعالى : ( ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها وما بطن ...)[42].
3 – طلب اجتناب الفعل: مثل قوله : ( يا أيها آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه )[43].
ومنه قول النبي ص : ( اجتنبوا السبع الموبقات ... )[44].
4 - استعمال لفظ لا يحل : ومنه قوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره )[45] وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها )[46]، وقوله ص : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس )[47]
5 – ترتيب العقوبة على الفعل: سواء كانت العقوبة دنيوية أو أخروية أم فيهما معا، ومن الأمثله على ذكر العقوبة الدنيوية قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون )[48]، فقد أفادت الآية تحريم القذف لترتتب عقوبة الجلد.
ومن أمثله ذكر العقوبة الأخروية قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا )[49]، ومن أمثله ذكر العقوبة الأخروية والدنيوية معا قوله تعالى: ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة )[50].
6 – كل لفظ يدل علىإنكار الفعل بصيغة مشددة مثل : غضب الله ، لعنه الله، أو نفي الإيمان ، كقوله ص : ( والله لا يؤمن – ثلاثا – الذي يؤمن جاره بوائقه )[51]
أقسام الحرام:
أنزل الله تعالى الشريعة الإسلامية لتحقيق ورعاية مصالح العباد في الدنيا والآخرة، فما شرع اللَّه حكمًا إلا لمصلحة، وما حرم شيئا إلا لضرره، والضررإما أن يكون راجعا إلى ذات الفعل ويسمى حرامًا لذاته، وإما أن يكون الضرر راجعا لأمر يتعلق بالمحرم، ويسمى حرامًا لغيره.
أولًا: المحرم لذاته: وهو ما حرمه الشارع ابتداء وأصالة[52]، مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ولعب الميسر وشرب الخمر والزنا وقتل النفس وأكل أموال الناس بالباطل وزواج المحارم.
فالمحرم لذاته هو أمرغير مشروع أصلًا، لأن سبب التحريم يرجع إلى المحل أو إلى ذات الفعل، وأنه يشتمل على مفسدة ومضرة تتعلق بالمحرم نفسه، ويترتب على ذلك أن التعاقد مثلا على شيء محرم لذاته يكون باطلا، ولا يترتب عليه أثر شرعي، والحرام لا يصلح سببًا شرعيًّا، لعدم صلاحية المحل لظهور الحكم الشرعي فيه، فزواج المحارم باطل، والزنا باطل، وبيع الميتة باطل، والباطل لا يترتب عليه أثر شرعي.
ثانيًا: المحرم لغيره:
وهو ما كان مشروعًا في أصله، وحرمه الشارع لوصف خارج عن المحل، أي بسبب اقتران أمر آخر خارجي يسبب ضررا للمجتمع، فحرمه الشارع لهذا السبب[53]، مثل الصلاة في ثوب مغصوب، والبيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وزواج المحلِل، والصلاة بدون طهارة، فإن الصلاة في الأول مشروعة وواجبة على المكلف، ولكن لما اقترن بها المنكر، وهو الانتفاع بالثوب المغصوب، أصبحت محرَّمة بسببه، والبيع مشروع ومباح، ولكن لما اقترن به منكر وهو الانشغال عن صلاة الجمعة صار محرمًا، وزواج المحلِّل، والغش في البيع.
وينظر العلماء إلى المحرم لغيره من جهتين متضادتين، فمن جهة أصله فهو مشروع لعدم وجود المفسدة والمضرة في محله، ومن جهة أخرى فهو حرام لما يترتب عليه من مفسدة ومضرة وهو أمر خارجي عن المحل أو الفعل، ولذا فقد اختلفت آراء الأئمة في حكم كل مسألة من المسائل السابقة، وانقسموا في تكييف أثر المحرم لغيره إلى قسمين كل منهما يرجح أحد الجانبين على الآخر، وظهر قولان:
القول الأول: يرى الحنفية أن التعاقد على المحرم لغيره يكون فاسدًا لا باطلًا، لأنهم يفرقون بين البطلان والفساد، ويرون أن الفساد مرتبة بين البطلان والصحة، وأن العقد الفاسد منعقد ولكنه غير صحيح، وأنه يجب فسخه، فإن فات ونُفذ ترتبت آثاره عليه.
القول الثاني: يرى جمهور الأئمة أن العقد على المحرم لغيره باطل كالعقد على المحرم لذاته، وأنه لا فرق بين الفساد والبطلان، وهما مرتبة واحدة، قال الآمدي: مذهب الشافعي أن المحرم بوصفه مضاد لوجوب أصله أي: إن التحريم للوصف كالتحريم للأصل تمامًا.
ونتيجة للاختلاف السابق اختلفت الأنظار في حكم كل مسألة محرمة لغيرها، ففرق الحنفية بين الصفة الجوهرية التي يتعلق بها التحريم لغيره ويكون العقد فاسدًا كالربا، وبين الصفة العارضة التي يتعلق بها التحريم لغيره، ويكون حكمها الكراهة فقط، أي: التحريمية، كالبيع وقت أذان الجمعة (.
وفرق الشافعية بين المحرم لغيره لوصف فيه كالصلاة بدون طهارة وحكمها البطلان، وبين التحريم لأمر خارج عن المحل، وحكمه الصحة مثل الطلاق في زمن الحيض، فهو صحيح لصرف التحريم إلى أمر خارج عن الطلاق وهو ما يفضي إليه من تطويل العدة، وكذا الصلاة في الأوقات والأماكن المنهي عنها.
وهذا الاختلاف يرجع إلى مقتضى النهي، هل يترتب عليه الفساد أم البطلان وهل هناك فرق بين الفساد والبطلان .
وينتج عن تقسيم الحرام إلى حرام لذاته وحرام لغيره، بالإضافة إلى الاختلاف في الفساد والبطلان ينتج أمر آخر، وهو جواز استباحة المحرم في بعض الحالات، فالمحرم لذاته يباح بهدف الحفاظ على الضروريات وهي حفظ الدين والمال والنفس والعقل والعرض، فيباح الخمر للحفاظ على الحياة عند التهلكة، ويرخص بالكفر ظاهرًا للحفاظ على النفس عند الإكراه بالقتل، أما المحرم لغيره فإنه يباح من أجل الحفاظ على الضروريات السابقة، ومن أجل الحفاظ على الحاجيات، وهي التي يؤدي تركها إلى مشقة بالغة على المكلف؛ مثل كشف العورة، فتباح للحفاظ على الحياة أحيانًا، وتباح للطبيب من أجل الاستشفاء من الأمراض، وتخفيف الألم عن المريض.
المحرم المعيَّن والمخيَّر:
ينقسم المحرم باعتبار التعيين إلى قسمين، محرم معين، ومحرم مخير فالمحرم المعين هو جميع المحرمات تقريبًا التي نهى عنها الشارع، ورتب على فاعلها العقوبة، كتحريم قتل النفس وعقوق الوالدين والعبودية لغير اللَّه، ومحرم مخير وهو أن يحرم الشارع أحد الأمرين فقط، فإذا فعل أحدهما أصبح الآخر محرمًا، وأن المكلف له أن يفعل عدة أشياء إلا واحدًا منها، وهذا القسم محصور وقليل جدًّا، وله عدة أمثلة:
1 - أن يقول رجل لزوجاته: إحداكن طالق، فتحرم واحدة منهن، فإذا عاشر الزوج ثلاثًا فالرابعة محرمة، كما يجوز أن يعين إحداهن للطلاق أيضًا.
2 - النهي عن الجمع بين الأختين في وقت واحد، فالشريعة أجازت الزواج بكل منهما، لكن إذا تزوج إحدى الأختين حرمت عليه الأخرى، ما لم يطلق الأولى أو تموت، وكذلك الجمع بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها.
3 - نص القرآن الكريم والسنة الشريفة على التخيير في التحريم بين الأم وبنتها، فكل منهما يجوز الزواج منها، ولكن إذا تزوج من إحداهما حرمت عليه الأخرى قال تعالى: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ )[54].
٤ - كان العرب يجمعون بين عدد غير محدود من الزوجات ، وجاء الإسلام وبعضهم عنده عشر زوجات، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه: ( أمسك أربعًا وطلق سائرهن )[55] ، فتعدد الزوجات زيادة على الأربع زوجات حرام، ولكن لم يعين الشارع المحرمة منهن، وترك الخيار للزوج.
المكروه
تعريف المكروه
المكروه لغة: القبيح، من كَرُه الأمر مثل قَبُح، وزنًا ومعنى، وهو ضد المحبوب، والكريهة الحرب، أو الشدة في الحرب[56] .
المكروه اصطلاحا: المكروه هو ما طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم . أو هو ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله .
فالمكروه هو الفعل الذي طلب الشارع تركه، وكان هذا الطلب بدون إلزام، مما يدل على رغبة الشارع في تركه و الابتعاد عنه، وهو ما يستحق تاركه المدح والثناء والأجر والثواب من اللَّه تعالى، أما فاعله فلا يستحق العقاب والذم، وقد يستحق اللوم والعتاب على المداومة على فعله، ومثال المكروه أكل لحم الخيل، عند الحنفية وفي قول عند المالكية[57]، وترك السنن المؤكدة، والصلاة في الأوقات المكروهة، والمكروه يقابل المندوب، ولذا يطلق على ترك المندوب، ويطلق على ترك كل مصلحة راجحة .
ملاحظة : كان السلف الصالح يطلقون المكروه على الحرام ورعا وخوفا واحتياطا على ما لم يرد تحريمه بنص صريح، وكان الإمام مالك يقول : أكره كذا وهو حرام[58]، مثل قولهم: يكره التوضؤ بآنية الذهب والفضة ، ويقصدون يحرم.
الأساليب التي تدل على الكراهة:
1 - اللفظ الصريح بالكراهة، وما يشابهها من الألفاظ التي تصرح بعدم الاستحسان، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم : ( إن اللَّه كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال )[59]، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق)[60].
2 - أن ينهى الشارع عنه نهيًا مقترنًا بما يدل على صرفه إلى الكراهة، مثل قوله تعالى في كراهة السؤال عن المباح خشية أن يحرم على المؤمنين: ( لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[61] ، والقرينة التي صرفت النهي عن التحريم إلى الكراهة هي قوله تعالى: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا )[62]
3 - أن يطلب الشارع اجتنابه وتركه مع القرينة التي تدل على الكراهة دون التحريم، مثل قوله تعالى في كراهة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة عند الحنفية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )[63]، قال الحنفية: القرينة على صرف الطلب من التحريم إلى الكراهة أن البيع مشروع ومباح في أصله، وإنما كره لأنه يشغل عن الصلاة.
ونلاحظ أن الأساليب التي تفيد التحريم والكراهة واحدة تقريبًا وتشترك فيما بينها، فإن طلب الشارع الكف عن أمر، أو جاء النهي عامًّا، أو طلب الاجتناب مطلقًا، كان الفعل حرامًا، وإن وجدت القرينة التي تصرفه عن الحرمة كان مكروهًا، ومن القرائن اللفظية والنصية ترتيب العقوبة على الفعل أو عدم ترتيبها[64] .
حكم المكروه
إن الفعل المكروه يشتمل على بعض المفاسد، ولذا ترجح طلب تركه على طلب فعله، ولكنه لم يصل إلى درجة الحرام، وإن فاعله لا يستحق العذاب والعقاب في الدنيا والآخرة، وقد يستحق اللوم والعتاب على فعله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( فمن رغب عن سنتي فليس مني )[65]، وتارك المكروه يمدح ويثاب إذا نوى به التقرب إلى اللَّه تعالى.
ويتفرع عن بحث المكروه عدة أحكام هي:
1- اختلف العلماء في المكروه، هل هو منهيٌّ عنه أم لا؟
كما اختلفوا في المندوب هل هو مأمور به أم لا؟ والجمهور على المكروه منهي عنه حقيقة، خلافًا للحنفية، كما أن المندوب مأمور به، والأدلة واحدة، والخلاف واحد، وقد سبق الكلام عنه في المندوب.
2 - اختلف العلماء في المكروه هل يعتبر حكمًا تكليفيًّا أم لا؟
ذهب الجمهور إلى أنه ليس تكليفًا، لأن تركه ليس إلزامًا، ولا كلفة فيه، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: إنه تكليف، والأدلة نفسها التي سبقت في المندوب.
وخلاصة القول: إن المكروه مع المحرم كالمندوب مع الواجب.
ملاحظة : إن الحنفية يقسمون المكروه إلى قسمين، مكروه تحريمي ومكروه تنزيهي، والمكروه التحريمي هو ما طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا بدليل ظني مثل لبس الحرير والذهب على الرجال الثابت بحديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ( هذان حرام على رجال أمتي حلٌّ لإناثهم )[66]، والبيع على بيع الآخر، والخطبة على خطبة غيره،
وحكمه أنه قسم للمحرم وليس قسم للمكروه، وهو قسم من الحرام عند الإمام أبي حنيفة والإمام أبي يوسف، وإن أطلق عليه لفظ المكروه، ويأخذ أحكام الحرام من تحريم للفعل وطلب الترك واستحقاق العقاب على الفعل، ولكن لا يكفر جاحده.
والمكروه التنزيهي هو ما طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم، وحكمه مثل حكم المكروه المذكور عند الجمهور سابقًا، وأن فاعله يخالف الأولى في المكروه، مثل الوضوء من سؤر سباع الطير، وأكل لحوم الخيل .
٤ - قسم بعض الشافعية المكروه إلى قسمين، بحسب الدليل في النهي، فإن كان النهي غير الجازم مخصوصًا بأمر معين فهو مكروه، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )[67] ومثل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل، فإنها خلقت للشياطين ، وإن كان النهي غير الجازم غير مخصوص بأمر معين فيكون فعله خلاف الأولى، كالنهي عن ترك المندوبات وإفطار المسافر في رمضان[68].
المباح
تعريف المباح:
المباح لغة : اسم مفعول من أباح، وهو المسموح، وهو ضد المحظور، أبحتك الشيء أحللته لك[69]، والإباحة التخلية بين الشيء وطالبه.
المباح اصطلاحا: هو ما خيَّر الشارعُ المكلَّف بين فعله وتركه[70]، فلم يطلب الشارع من المكلف أن يفعل هذا الفعل ولم يطلب منه أن يكف عنه.
الأساليب الدالة على الإباحة :
النص على الإباحة : تثبت إباحة الفعل بالنص الشرعي على إباحته، فيرد النص
برفع الإثم أو الحرج على الفعل، فيدل بهذا الأسلوب على إباحته كقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ )[71] وقوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ
اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ )[72] ، وكقوله سبحانه وتعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء)[73] ،
الأمر المقترن بقرينة تدل على الإباحة: كما جاء أمرالشارع بفعل ودلت القرائن على أن الأمر للإباحة كقوله تعالى: ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ )[74] وكقوله سبحانه ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ )[75] ، ، وكقوله: ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل )[76] لأن الأمر بعد النهي يدل على الإباحة.
الإباحة الأصلية: و تثبت إباحة الفعل بالإباحة الأصلية، فإذا لم يرد من الشارع نص على حكم الفعل، ولم يقم دليلٌ شرعيٌ آخر على حكم فيه كان هذا مباحا بالبراءة الأصلية لأن الأصل في الأشياء المباحة، فنحكم على العقد أو التصرف أو الفعل بالإباحة.
والأدلة على قاعدة الإباحة الأصلية كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية قال تعالى : (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا )[77] ، وقال تعالى : (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه )[78] ويقول الرسول ص : (إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنه ).[79]
ويقول ص : ( ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم )[80].
المبحث الثاني : الحكم الوضعي
عرفنا فيما سبق أن الحكم هو خطاب اللَّه المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، وأن الحكم ينقسم إلى قسمين : الحكم التكليفي والحكم الوضعي، وقد انتهينا من الكلام عن الحكم التكليفي، ونواصل في بيان الحكم الوضعي وأقسامه.
تعريف الحكم الوضعي
الوضع في اللغة: الإسقاط والترك والافتراء والولادة ...، نقول: وضع عنه دينه أي أسقطه، ووضع الشيء بين يديه تركه عنده، ووضع الرجل الحديث افتراه وكذبه، ووضعت الحامل ولدها أي ولدته[81].
الحكم الوضعي اصطلاحا: هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بجعل الشيء سببًا لفعل المكلف، أو شرطًا له، أو مانعًا، أو صحيحًا، أو فاسدًا، أو رخصة، أو عزيمة، فالوضع هو جعل الشيء مرتبطًا بشيء آخر.
فالحكم الوضعي هو الوصف المتعلق بالحكم التكليفي، وهذا الوصف إما أن يكون سببًا أو مانعًا أو شرطًا أو صحيحًا أو فاسدًا أو رخصة أو عزيمة
ويطلق الحكم الوضعي على الوصف أي ( السبب والشرط والمانع والصحة والفساد والرخصة والعزيمة )، وهذا الوصف إما أن يسبق الحكم التكليفي كالسبب والشرط والمانع، وإما أن يكون لاحقًا لها وأثرًا للحكم التكليفي كالصحة والبطلان أو الرخصة والعزيمة، وبالتالي فالحكم الوضعي علامة للحكم التكليفي ومرتبط به، فاللَّه سبحانه كلف الناس بأحكام، وربط هذا التكليف بعلامات أخرى تدل عليها.
الحكمة من خطاب الوضع:
وتتجلى الحكمة من وجود الحكم الوضعي مع مبدأ صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وذلك أنه يتعذر معرفة حكم اللَّه تعالى في كل الأحوال، كما تتعذر معرفة حكم اللَّه تعالى في كل الوقائع والمسائل بعد انقطاع الوحي، فاقتضت حكمة اللَّه تعالى أن يعرف الناس على أحكامه بربطها بأمور محسوسة تقتضي معرفة الأحكام الشرعية، كربط الحكم بالعلة، وربط الحكم بالسبب، وذلك حتى لا تتعطل الوقائع عن الأحكام [82]
ومن جهة ثانية فلا يشترط للحكم الوضعي التكليف والعلم والقدرة، فلا يشترط فيمن يتعلق به الحكم الوضعي أن يكون مكلفًا، كما لا يشترط فيه العلم به، والقدرة عليه، إلا في حالتين:
الأولى: سبب العقوبة كالقصاص والحدود، فيشترط لترتب العقوبة أن يكون الفاعل مكلفًا وعالمًا وقادرًا على الفعل، فلا تجب العقوبة على المخطئ والمكره والمجنون والصغير.
والثانية: نقل الملك: كالبيع والهبة والوصية، فيشترط فيها العلم والقدرة، والحكمة من ذلك أن الشرع رتب العقوبة ونقل الملك على العدل بين الناس والرفق بهم وعدم تكليفهم بالمشاق أو بما لا يطاق[83]
أقسام الحكم الوضعي:
ينقسم الحكم الوضعي بحسب طبيعة ارتباط الحكم التكليفي به إلى خمسة أقسام، وهي السبب، والشرط، والمانع، والصحيح ويقابله الفاسد أو الباطل، والعزيمة ويقابلها الرخصة.
وذلك أن الشيء يقتضي أن يكون سببًا لشيء آخر، أو شرطًا له، أو مانعًا، أو مسوغًا لرخصة بدل العزيمة، أو صحيحًا، أو غير صحيح، فكل منها حكم ثبت بخطاب الوضع.
واتفق العلماء على اعتبار السبب والشرط والمانع من أقسام الحكم الوضعي، واختلفوا في الصحة والفساد أو البطلان والرخصة والعزيمة.
وسوف نعالج كل قسم من هذا المبحث، فنبين تعريفه وحكمه واختلاف العلماء فيه إن وجد، وما يتعلق به من بحوث.
المطلب الأول : السبب
تعريف السبب
السبب في اللغة: هوما يُتوصل به إلى غيره، ومنه سمي الطريق سببًا، وسمي الحبل سببًا[84] .
وفي الاصطلاح: عرفه الآمدي بأنه: الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل السمعي على كونه معرفًا لحكم شرعي[85].
شرح التعريف :
الوصف هو المعنى،
والظاهر هو المعلوم ضد الخفي،
والمنضبط هو المحدد تحديدا ينفي الاختلاف باختلاف الأشخاص أو الأحوال، وهو بخلاف الحكمة وهي الباعث أو الهدف من تشريع الأحكام ، من جلب المنافع أو دفع المضار عن المكلفين،
والدليل السمعي هو ما كان في الكتاب والسنة، وكونه معرفًا لحكم شرعي أي علامة على الحكم الشرعي من غير تأثير فيه.
فالسبب هو المعنى الظاهر المعلوم المحدد الذي ثبت بالكتاب والسنة أنه علامة على وجود الحكم، أو هو ما ارتبط به غيره وجودًا وعدمًا، فالشارع جعل السبب علامة على وجود مسببه وهو الحكم، وجعل تخلفه علامة على تخلف ذلك الحكم، فالشارع ربط وجود المسبب بوجود السبب، وعدمه بعدمه، ويلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدم السبب عدم المسبب[86].
مثاله: جعل الشارع الزنا سببًا لوجوب الحد، لأن الزنا لا يوجب الحد بذاته، وإنما بجعل الشارع له، وزوال الشمس سبب في وجوب الظهر، وغروب الشمس سبب في وجوب المغرب، وطلوع الفجر سبب في وجوب الصبح.
ويعرف السبب بإضافة الحكم إليه كحد الزنا، فالحد حكم شرعي أضيف إلى الزنا، فعرفنا أن الزنا هو السبب، مثل صلاة المغرب، فالصلاة حكم شرعي أضيف إلى المغرب، فعرفنا أن الغروب هو السبب[87].
ومنه يتبين لنا أن السبب لا يكون سببًا إلا بجعل الشارع له سببًا، فيكون سببا لحكم تكليفي، والتكليف من اللَّه تعالى، وهو سبحانه من يضع السبب الذي يرتبط به الحكم، وهذه الأسباب ليست مؤثرة بذاتها في وجود الأحكام، بل هي علامة وأمارة لظهور الأحكام ووجودها ، فالسبب وسيلة وصلة، كالحبل في إخراج الماء من البئر.
أنواع السبب: ينقسم السبب عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، أهمها:
أولًا: أنواع السبب من حيث موضوعه: ينقسم السبب باعتبار موضوعه إلى قسمين:
1 - السبب الوقتي: وهو ما لا يعرف له حكمة باعثة في تعريفه للحكم، كالزوال سبب وقتي لوجوب الظهر[88] لقوله تعالى: ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )[89] ، فإن الوقت سبب محض وعلامة على وجوب الصلاة، ورؤية هلال رمضان سبب وقتي لوجوب الصيام، لقوله تعالى: ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )[90]
2 - السبب المعنوي: وهو ما يعرف له حكمة باعثة في تعريفه للحكم الشرعي، كالإسكار سبب معنوي لتحريم الخمر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( كل مسكر حرام )[91] وملك النصاب سبب معنوي لوجوب الزكاة، والملك سبب لإباحة الانتفاع وكذا السرقة والزنا وقطع الطريق والقتل أسباب للعقوبات[92]،
أهمية التقسيم : وتظهر أهمية تقسيم السبب إلى السبب الوقتي والسبب المعنوي في جواز القياس في القسم الثاني، وعدم جوازه في القسم الأول لمعرفة الحكمة منه.
ثانيًا: أنواع السبب من حيث قدرة المكلف على إيجاده: ينقسم السبب باعتبار قدرة المكلف على القيام به، وعدم قدرته على فعله إلى قسمين:
1- السبب الذي هو من فعل المكلف ومقدور له: كالبيع، فهو سبب لملك المبيع والثمن، والقتل العمد سبب لوجوب القصاص، وعقد الزواج سبب لإباحة الاستمتاع بين الزوجين، وعقد الإجارة سبب لحل الانتفاع بالعين، وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام، هي:
أ- سبب مأمور به شرعًا: ويجب على المكلف فعله، أو يندب له القيام به، كالنكاح، فهو سبب للتوارث، ومأمور به.
ب- سبب منهي عنه: كالسرقة سبب للحد، والسرقة منهي عنها.
ج - سبب مباح : ومأذون فعله للمكلف، كجعل الذبح سببًا لحل الحيوان المذبوح، والذبح مباح.
والسبب الذي يكون من فعل المكلف ويكون قادرًا عليه له صفتان، صفة التكليف، لأنه مقدور عليه ومطلوب من الشارع فعله لجلب المنافع ودفع المضار، ويدخل في الحكم التكليفي، وصفة الوضع، لأن الشارع رتب عليه أحكامًا أخرى، ويدخل في الحكم الوضعي، كالنكاح سبب للتوارث وحل الاستمتاع من جهة، والقتل سبب للقصاص، وهو حرام، والزنا سبب للحد، وهو حرام[93].
2 - السبب الذي ليس من فعل المكلف، ولا يقدر عليه، كالزوال فهو سبب لوجوب صلاة الظهر، والقرابة سبب للإرث والولاية، والموت سبب لانتقال التركة إلى الوارث وهذه الأسباب ليست من فعل المكلف، ولا يقدر عليها.
وهذا النوع قد يكون سببًا لحكم تكليفي كالزوال، وقد يكون سببًا لحكم وضعي كالموت، فهو سبب لنقل الملك إلى الورثة.
ثالثًا: أنواع السبب باعتبار المشروعية:
ينقسم السبب باعتبار المشروعية وعدمها إلى نوعين:
1 - السبب المشروع: وهو كل سبب أدى إلى مصلحة شرعية، وإن اقترن به أو تضمن مفسدة بحسب الظاهر، كالجهاد سبب لنشر الدعوة وحماية العقيدة وتبليغ الرسالة، وإن أدى إلى مفسدة كإتلاف المال وتعريض الأنفس للقتل، وإذا ظهر أحيانًا، أو نتج عن السبب المشروع بعض المفاسد فإنها ليست ناشئة عن السبب المشروع، وإنما تنتج عن أمر آخر مرافق له.[94]
2 - السبب غير المشروع: وهو كل سبب يؤدي إلى مفسدة في نظر الشارع، وإن اقترن به أو تضمن مصلحة بحسب الظاهر، كالنكاح الفاسد والتبني، فإنها أسباب غير مشروعة لأنها تؤدي إلى مفاسد كثيرة تضر بالفرد والمجتمع، وإن لم تظهر فإن العاقل المتبصر يدرك خطرها في المستقبل، وإن ما يظهر للمرء أحيانًا من مصالح، أو ما ينتج من منافع عن السبب الفاسد، فلا يكون من ذات السبب الممنوع، وإنما هو من أمر آخر[95]
رابعًا: أنواع السبب باعتبار تأثيره في الحكم: ينقسم السبب باعتبار تأثيره في الحكم وعدمه إلى نوعين:
1 - السبب المؤثر في الحكم: ويسمى علة، وهو ما يكون بينه وبين الحكم مناسبة يدركها العقل، وحكمة باعثة لتشريعه، كالإسكار فهو سبب مؤثر في الحكم، وهو علة التحريم، والسفر سبب لجواز الإفطار، وهو علة الإفطار في رمضان، والعلة هي الوصف المنضبط الذي جعل مناطًا لحكم يناسبه.
2 - السبب غير المؤثر في الحكم: وهو الذي لا يكون بينه وبين الحكم مناسبة، ولا يستلزم وجود مناسبة وحكمة بينه وبين الحكم، مثل الوقت سبب لوجوب الصلاةوهذا يتطلب منا بيان الصلة بين العلة والسبب.
العلاقة بين العلة والسبب:
العلة أو السبب أمارة على وجود الحكم، كالإسكار في الخمر أمارة على التحريم، والسفر في رمضان أمارة على جواز الإفطار، ولذا قال بعض علماء الأصول: إنهما بمعنى واحد، وقال آخرون: إنهما متغايران، وخصوا العلة بالأمارة المؤثرة التي تظهر فيها المناسبة بينها وبين الحكم، وخصوا السبب بالأمارة غير المؤثرة في الحكم.
وقال أكثر العلماء: إن السبب أعم من العلة مطلقًا، فكل علة سبب وليس كل سبب علة ، وإن السبب يشمل الأسباب التي في المعاملات والعقوبات، ويشمل العلة التي تدرس في القياس والتي هي سبب الحكم، والفرق بينهما أن الصفة التي يرتبط بها الحكم إن كانت لا يدرك تأثيرها في الحكم بالعقل، ولا تكون من صنع المكلف، كالوقت للصلاة المكتوبة، فتسمى باسم السبب، أما إذا أدرك العقل تأثير الوصف بالحكم فيسمى علة ويسمى سببًا أيضًا، فالسبب يشمل القسمين، وهو أعم من العلة كما قدمنا.
خامسًا: أنواع السبب من حيث نوع المسبب: وينقسم السبب باعتبار نوع المسبب الذي يدل عليه واختلاف أثره عليه إلى قسمين.
1 - السبب لحكم تكليفي، كالوقت الذي جعله الشارع سببًا لإيجاب الصلاة في قوله تعالى: ( أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )[96] ، وظهور الهلال سبب لإيجاب الصوم في قوله - صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته )[97]
2 - سبب لإثبات ملك أو حل أو إزالة الملك والحل، كالبيع سبب لإثبات الملك، والعتق سبب لإزالة الملك، وعقد الزواج سبب لحل المتعة بين الزوجين، والطلاق سبب لإزالة حل المتعة، وهكذا .
سادسًا: أنواع السبب من حيث مصدر العلاقة بينه وبين المسبب: ينقسم السبب باعتبار مصدر الرابطة والعلاقة بينه وبين المسبب إلى ثلاثة أنواع:
1 - السبب الشرعي: وهو السبب الذي تكون العلاقة والرابطة بينه وبين المسبب ناتجة عن حكم شرعي، كالوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، فإنه سبب له بحكم الشرع.
2 - السبب العقلي: وهو السبب الذي تكون العلاقة والرابطة بينه وبين المسبب ناتجة عن حكم العقل، ولم تثبت عن طريق شرعي، كالنظر بالنسبة للعلم، فإنه سبب لاكتساب العلم، ووجود النقيض سبب في انعدام نقيضه، فالعقل يدرك ذلك.
3 - السبب العادي: وهو السبب الذي تكون العلاقة والرابطة بينه وبين المسبب ناتجة عن حكم العادة والعرف، مثل حز الرقبة بالنسبة للقتل أو الذبح، والسفر للحج.
وفائدة هذا التقسيم تكمن في إخراج السبب العقلي والعادي من الحكم الوضعي، وأنه يقتصر على السبب الشرعي.
حكم السبب:
تبين أن حقيقة السبب هي أنه يلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدمه عدم الحكم، فإذا وجد السبب سواء قام به المكلف وكان من فعله، أو كان من غير فعله، وتوافرت الشروط الموضوعة للسبب والمسبب، وانتفت موانع الحكم، ترتب على السبب مسببه حتمًا، سواء أكان المسبب حكمًا تكليفيًّا، أو كان إثبات ملك أو حل أو إزالتهما، وسواء أقصد المكلف ترتب المسبب على فعله أم لم يُرِد، وسواء قصد إلى المسبب أم لم يقصد، لأن ترتب المسبب على السبب من وضع الشارع ولا دخل للمكلف به، ولا عبرة بقصده، ولأن السبب لا يؤثر بنفسه في المسبب، كما سبق عند جمهور العلماء، بل يترتب المسبب على السبب، ولو قصد المكلف مثلًا عدم ترتبه عليه، والأمثلة توضح ذلك، فمن اشترى سلعة ثبت له الملك والانتفاع، ومن سافر في رمضان أبيح له الفطر سواء أقصد ذلك أم لم يقصد، والموت والقرابة سببان للميراث ولو لم يرض الوارث أو المتوفى ذلك، وتدخل التركة في ملك الوارث جبرًا عنه، ولا يحق له أن يرفض التركة أو أن يمتنع عن قبول الميراث، ومن تزوج وجب عليه المهر ونفقة الزوجة، ولو تزوجها على أن لا مهر عليه ولا نفقة، وهكذا
المطلب الثاني: الشرط
تعريف الشرط
الشرط لغة : الشرط بفتحة وسكون جمع شروط، قال الفيروزاباذي: الشرط: إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه[98].
الشرط اصطلاحا: هو ما يتوقف وجود الحكم وجودًا شرعيًّا على وجوده، ويكون خارجًا عن حقيقته، ويلزم من عدمه عدم الحكم[99].
فالشرط وصف يتوقف عليه وجود الحكم شرعا، و أن عدم الشرط يستلزم عدم الحكم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، ولا يتحقق الحكم بشكل شرعي إلا بوجود الشرط الذي وضعه الشارع له، كالوضوء شرط للصلاة، فلا توجد الصلاة بشكل شرعي إلا إذا وجد الوضوء، والوضوء ليس جزءًا من أعمال الصلاة، وإذا عُدم الوضوء عُدمت الصلاة، ولكن إذا وجد الوضوء فلا يلزم منه وجود الصلاة ولا عدمها، ومثل الحول شرط في وجوب الزكاة، فإذا عُدم الحول لزم عدم وجوب الزكاة، ومثل حضور الشاهدين في عقد الزواج، فالشهادة شرط في الزواج، ولا يصح الزواج إلا بالشهادة، والشهادة ليست جزءًا في الزواج، وإذا فقدت الشهادة فسد الزواج، ولكن لا يلزم من وجود الشاهدين وجود الزواج، ومثل القدرة على التسليم شرط في صحة البيع، والإحصان شرط في سببية الزنا للرجم[100].
وشرح التعريف وبيان حقيقته يقودنا لبيان العلاقة بين الركن والشرط، وبين الشرط والسبب.
الركن هو ما يتوقف عليه وجود الحكم، وبكون جزءًا في ماهيته، أما الشرط فهو ما يتوقف عليه وجود الحكم، ويكون خارجًا عن حقيقته وماهيته، ويظهر من هذا أن الركن والشرط يتفقان بأن كلًّا منهما يتوقف عليه وجود الحكم، وإذا نقص الركن أو الشرط بطل أو فسد الحكم.
ويختلفان بأن الركن جزء من الماهية، والشرط ليس جزءًا من الماهية، والمثال يوضح ذلك.
الركوع ركن يتوقف عليه وجود الصلاة، وهو جزء منها، وكذا السجود والقراءة والقيام، والصيغة في العقد ركن، وإذا اختل الركن بطلت الصلاة أو العقد.
والوضوء شرط يتوقف عليه وجود الصلاة، ولكنه خارج عن الصلاة، لأنه يسبقها، وكذا طهارة الثوب والمكان والجسد، ومثله الشهود في عقد الزواج شرط فيه وخارج عن الزواج، وإذا فقد الشرط فقدت الصلاة وعقد الزواج.
وإذا حصل خلل في الركن كان الخلل في نفس التصرف أو العقد، ولا يتحقق وجود المسبب والماهية، وكان حكمه البطلان باتفاق العلماء، أما إذا حصل خلل في شرط من الشروط كان الخلل في وصف خارج عن الحقيقة وتكون الحقيقة والماهية موجودة، ولكن لا يترتب عليها أثرها الشرعي لانتفاء الشرط فيها، وحكمها البطلان عند جمهور العلماء كالركن، خلافًا للحنفية الذين وصفوها بالفساد الذي يترتب عليه بعض الآثار.
ولكن الحنفية يفرقون في أثر الفساد بين العبادات والمعاملات، فالعبادات الفاسدة لا أثر لها عندهم، ولا تسقط عن المكلف، ولا تبرأ منها الذمة، كالباطلة، ويتفقون بذلك مع الجمهور فيها، أما المعاملات الفاسدة فإنها يترتب عليها بعض الآثار عندهم، بخلاف المعاملات الباطلة فإنه لا يترتب عليها أثر شرعي[101]
العلاقة بين السبب والشرط
إن الشروط الشرعية تكمل السبب، وتجعل أثره يترتب عليه، وهو المسبب، وإذا وجد السبب ولم يتوفر الشرط فلا يوجد المسبب، فالسبب يلزم منه وجود المسبب عند تحقق الشرط وانتفاء المانع، وإذا لم يتحقق الشرط فلا أثر له، مثل القتل سبب لإيجاب القصاص، إذا تحقق شرطه وهو العمد والعدوان، وعقد الزواج سبب لحل الاستمتاع
عند تحقق الشرط وهو حضور الشاهدين، والنصاب سبب لوجوب الزكاة عند تحقق الشرط، وهو حولان الحول، وهكذا فإنه لو صح وقوع المشروط بدون شرطه لم يكن شرطًا فيه، وقد فرض كذلك أنه شرط.
ويتفرع عن هذا الأصل خلاف فقهي بين المذاهب، وهو هل يوجد الحكم بوجود سببه مع عدم الشرط أو تأخره، أم لا؟، وذلك أن الحكم يتوقف على وجود السبب وتحقق الشرط، فإن وجد السبب فقط فهل يصح أن يقع الحكم بدون الشرط أم لا يصح؟
ذهب بعض الفقهاء إلى مراعاة السبب ووقوع المسبب عليه دون توقفه على الشرط، وذهب آخرون إلى توقف الحكم على تحقق الشرط، مراعاة لأثر الشرط، وإن اختفاء الشرط مانع للسبب من تأثيره في وجود المسبب، وتطبيق القواعد يرجح القول الثاني، والقول الأول يعتمد على النصوص في الحديث، فجعلوا ذلك استثناء من القاعدة العامة، والأمثلة الفقهية توضح ذلك، مثل الاختلاف في جواز تعجيل الزكاة عند الحنفية والشافعية، فالنصاب سبب في وجوب الزكاة، والحول شرط له، فعلى القول الأول يجوز تعجيل الزكاة قبل تحقق الشرط، وعلى القول الثاني لا يجوز تعجيل الزكاة إلا بعد حولان الحول على النصاب، ومثل تعجيل الكفارة قبل الحنث عند الشافعية، كمن حلف يمينًا على إثم مثلًا، فاليمين سبب الكفارة، والحنث شرطها، فعلى القول الأول يجوز تقديم الكفارة ثم الحنث في اليمين، واستدلوا بما رواه مسلم عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: واللَّه، إن شاء اللَّه، لا أحلف على يمين ثم أرى خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير[102]
وعلى القول الثاني لا يجوز، ومثل العفو عن القاتل من القتيل، لأن الضرب المؤدي إلى الموت سبب في القصاص أو الدية، والزهوق شرط، ويجوز العفو من القتيل قبل زهوق روحه باتفاق[103].
ويتفق الشرط والسبب في حالة العدم، فإذا عدم السبب عدم المسبب، وإذا عدم الشرط عدم المشروط، ويختلفان في حالة الوجود، فإذا وجد الشرط فلا يلزم منه وجود الحكم، كالوضوء لا يلزم من وجوده وجوب إقامة الصلاة، ولا يلزم من وجود الشاهدين وجود النكاح، أما السبب فيلزم من وجوده وجود الحكم، فإذا وجد الوقت وجبت الصلاة ووجب الصيام (٢).
أنواع الشرط: ينقسم الشرط عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، وهي:
أولًا: تقسيم الشرط باعتبار ارتباطه بالسبب أو المسبب:
ينقسم الشرط باعتبار ارتباطه بالسبب أو المسبب إلى نوعين:
1 - الشرط المكمل للسبب: وهو الذي يكمل السبب حتى ينتج أثره في الحكم، وهو المسبب، مثل حولان الحول في وجوب الزكاة في النصاب، فالنصاب سبب لوجوب الزكاة، ولا يتحقق وجود النصاب الدال على الغنى إلا بشرط حولان الحول، فالحول شرط مكمل للنصاب، والعمد والعدوان شرطان في القتل الموجب للقصاص، فالقتل سبب، والقصاص مسبب، ولا يرتبط السبب والمسبب إلا إذا تحقق شرطا العمد والعدوان، والقدرة على تسليم المبيع شرط
لصحة البيع الذي هو سبب ثبوت الملك، والإحصان شرط في سببية الزنا للرجم، وهكذا، وعدم هذه الشروط يفيد عدم الأسباب.
2 - الشرط المكمل للمسبب: وهو الذي يكمل المسبب وهو الحكم، فالطهارة وستر العورة شرطان يكملان الصلاة، لأن عدم الشرط يستلزم عدم الحكم[104]
ثانيًا: تقسيم الشرط باعتبار جهة اشتراطه:
ينقسم الشرط من حيث جهة اشتراطه إلى قسمين:
1- الشرط الشرعي: وهو ما اشترطه الشارع للأحكام والتصرفات، مثل الشروط التي وردت في العبادات والمعاملات وإقامة الحدود.
2 - الشرط الجَعْلي: وهو ما اشترطه المكلف، كما لو اشترطت المرأة تقديم معجل المهر كله، وكما لو اشترط المشتري نقل المبيع أو استلامه في مكان معين، ولا بد أن يكون الشرط الجعلي موافقًا لحكم الشرع، ومتفقًا مع مقتضى العقد أو التصرف، فإن كان منافيًا له بطل التصرف، كما لو اشترطت المرأة في عقد الزواج عدم المعاشرة، أو اشترط البائع تقييد ملكية المشتري، ولذا تتفاوت درجات الشرط الجعلي.
فإما أن يكون مكملًا لحكمة الشرع ومتفقًا مع مقتضى العقد، ومحققًا للغاية منه كاشتراط الكفالة أو الرهن في الدَّيْن المؤجل، وهذا القسم متفق على صحته.
وإما أن يكون الشرط الجعلي مخالفًا لمقتضى العقد ومتعارضًا معه، وغير ملائم لمقصود المشروط فيه ولا مكمل لحكمته، كأن يشترط الزوج عدم الإنفاق على زوجته، أو أن يشترط البائع عدم انتفاع المشتري بالعين، وهذا القسم متفق على بطلانه وإلغائه.
وإما أن يكون شرطًا زائدًا على مقتضى العقد، وهو الذي يقترن فيزيد من التزامات أحد الطرفين، أو يقوي هذه الالتزامات، وحكم هذا النوع مختلف فيه بين المذاهب اختلافًا واسعًا، فقد أجاز هذا الاشتراط وتوسع به المذهب الحنبلي والمالكي، وضيق فيه المذهب الحنفي والشافعي[105].
ثالثًا: تقسيم الشرط باعتبار إدراك الرابطة مع المشروط:
ينقسم الشرط من جهة إدراك الرابطة والعلاقة بينه وبين المشروط إلى أربعة أنواع:
1 - الشرط الشرعي: وهو الشرط الذي تكون العلاقة فيه بين الشرط والمشروط ناتجة عن حكم الشرع، كالوضوء للصلاة.
2 - الشرط العقلي: وهو الشرط الذي تكون العلاقة فيه بين الشرط والمشروط ناتجة عن حكم العقل، مثل ترك ضد الواجب لحصوله، كترك الأكل شرط لصحة الصلاة، ومثل اشتراط الحياة لي، فإذا انتفت الحياة انتفى العلم، ولا يلزم من وجود الحياة وجود العلم، ومثل الفهم في التكليف.
3 - الشرط العادي: وهو ما تكون العلاقة بينه وبين مشروطه ناتجة عن حكم العادة والعرف، كغسل جزء من الرأس لإتمام غسل الوجه، ومثل الغذاء للحيوان أي لحياته، وملاصقة النار للجسم في الإحراق، ومقابلة الرائي للمرئي، وتوسط الجسم الشفاف في الإبصار.
4 - الشرط اللغوي: وذلك في صيغ التعليق، مثل: إنها طالق إن خرجت من البيت، وهذا النوع له حكم السبب[106]
المطلب الثالث في المانع
تعريف المانع
المانع لغة: الحاجز أو الحائل بين شيئين، وتحجير الشيء، وهو اسم فاعل من منع، والامتناع هو الكف عن الشيء[107].
والمانع اصطلاحا: هو وصف ظاهر منضبط يستلزم وجوده عدم الحكم أو عدم السبب[108] .
فالمانع معنى معلوم محدد يمنع وجود الحكم، أو يمنع تحقق السبب، وذلك أنه إذا وجد السبب الشرعي، وتحقق شرطه، فلا يترتب المسبب عليه إلا إذا انتفى المانع، لأن المانع يمنع ترتب الحكم على السبب.
وحقيقته أنه يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم.
مثاله: اختلاف الدين والقتل في الميراث، فإذا وجدت الزوجية أو القرابة، وهما سببان للإرث، فلا يتم الميراث إلا إذا انتفى المانع، وهو اختلاف الدِّين أو القتل، والأبوة مانع من القصاص، فإذا وجد القتل وهو سبب للقصاص، وتحقق الشرط وهو العمد والعدوان، فلا ينفذ القصاص إلا إذا انتفى المانع، فإن وجد فلا قصاص.
العلاقة بين السبب والشرط والمانع
من التعريف والشرح تظهر العلاقة بين السبب والشرط من جهة وبين المانع من جهة أخرى، فالمانع يوجد مع وجود السبب وتوفر الشرط، ويمنع ترتب المسبب على سببه، فالشارع أخبرنا بوجوب الأحكام عند وجود السبب والشرط وانتفاء المانع، وعدم وجوب الأحكام أو عدم وجودها عند انتفاء السبب والشرط أو وجود المانع.
فالمانع عكس الشرط، لأنه يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، والشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، والمانع عكس السبب أيضًا، لأنه يلزم من وجود السبب وجود المسبب، ومن عدمه عدمه، أما المانع فيلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم.
وقد يلتبس الشرط مع عدم المانع، لأن كلًّا منهما يتوقف عليه وجود الحكم، ولذلك اعتبر بعض العلماء من شروط الصلاة: ترك المناهي من الكلام والطعام وغيرهما، ولكن الإمام النووي رحمه اللَّه حقق ذلك، وقال: إنها ليست شروطًا للصلاة، وإنما سميت بذلك مجازًا، وإنما هي مبطلات، لأن الشرط وصف وجودي، وعدم المانع وصف عدمي[109]
أنواع المانع
ينقسم المانع عدة أقسام باعتبارات مختلفة.
أولًا: أنواع المانع باعتبار تأثيره على الحكم والسبب:
ينقسم المانع في الأصول من حيث تأثيره على الحكم والسبب إلى نوعين:
1 - مانع للحكم لحكمة تقتضي نقيض الحكم، كالأبوة في القصاص، فإنها منعت القصاص مع وجود السبب وهو القتل، وتحقق الشرط وهو العمد والعدوان، ولكن وجد مانع الأبوة فيمنع القصاص، والحكمة أن الأب سبب وجود الابن، وهذا يقتضي ألّا يصير الابن سببًا لإعدام الأب ومثل ذلك القتل يمنع الإرث.
وهذا النوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ- المانع الذي لا يجتمع مع الحكم التكليفي، وهو الذي يزيل العقل كالنوم أو الجنون أو الإغماء، فإنها تمنع الخطاب التكليفي، وتكون مانعة للحكم.
ب- المانع الذي يجتمع مع أهلية التكليف، لكن المانع يرفع التكليف مع إمكان اجتماعه، كالحيض والنفاس والجنابة مانعة للصلاة ودخول المسجد، كما أن الحيض والنفاس مانعان للصيام.
ب- المانع الذي يرفع اللزوم في التكليف، ويحوله من طلب لازم إلى التخيير، كالمرض المانع من فريضة الجمعة، لكنه إن صلى صحت، والأنوثة المانعة من صلاة الجمعة، وإن صلت صحت صلاتها[110]
2 - المانع للسبب لحكمة تخل بحكمة السبب، كالدَّيْن في الزكاة، فهو مانع من ملك النصاب، لأن مال المدين ينقصه وجود حق الدائنين، ولأن دفع الدين أولى من مساعدة الفقراء والمساكين، وهذا عند الحنفية والجمهور، خلافًا للشافعية في الجديد.
ثانيًا: أنواع المانع باعتبار مصدره:
إن المانع إما أن يكون سماويًّا كالجنون والعته والنوم، وإما أن يكون مكتسبًا، كالسكر فإنه مانع للتكليف، والقتل فإنه مانع من الإرث.
ثالثًا: أنواع المانع باعتبار تأثيره في الحكم:
ينقسم المانع باعتبار تأثيره في الحكم إلى ثلاثة أنواع:
1 - ما يمنع الحكم ابتداء ويمنع استمراره، كالرضاع فإنه يمنع النكاح ابتداء، ويمنع استمراره إذا طرأ عليه.
2 - ما يمنع الحكم ابتداء، كالعدة تمنع ابتداء النكاح، ولا تبطل استمراره إذا طرأت في أثناء الزواج، كالزوجة التي وطئت غصبًا، أو بشبهة من غير زوجها، فعليها عدة تسمى استبراءً، ولا يبطل زواجها.[111]
3 - ما اختلف فيه، كالإحرام يمنع ابتداء الصيد، واختلف الفقهاء في أثره إذا طرأ في أثناء الإحرام، هل تجب إزالة اليد عنه أم لا؟ ومثل وجود الماء يمنع ابتداء التيمم، فإن طرأ في أثناء الصلاة، فهل يبطلها فيه قولان واختلاف[112].
رابعًا: أنواع المانع عند الحنفية:
قسم الحنفية المانع إلى خمسة أنواع وهي:
1 - ما يمنع انعقاد السبب، مثل انتفاء المحلية في البيع، فإنه مانع له كبيع الحُر.
2 - ما يمنع تمام السبب في حق غير العاقد، كبيع الفضولي، فالسبب وهو البيع قد تم في حق العاقد، ولا يستطيع إبطاله، ولم يتم العقد في حق المالك لعدم ولاية العاقد عليه، فهو بالخيار بين إجازته أو إبطاله.
3 - ما يمنع ابتداء الحكم، كخيار الشرط للبائع، فالعقد منعقد في حقهما، ولكن الخيار منع ملكية المبيع للمشتري.
4 - ما يمنع تمام الحكم، كخيار الرؤية، فالملك ثبت بالعقد، ولكن لا يتم إلا بعد الرؤية، ويحق لصاحب الخيار أن يفسخ العقد بإرادته.
5 - ما يمنع لزوم الحكم، كخيار العيب، فالملك ثابت وتام، وللمشتري ولاية التصرف في المبيع، ولكن العيب مانع من لزوم العقد، فالعقد غير لازم، وللمشتري طلب فسخ العقد[113].
الحاكم
لقد رأينا في تعريف الحكم الشرعي إنه خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً أو وضعاً، فالتعريف يشير إلى أن مصدر الأحكام في الشريعة الإسلامية هوالله تعالى،
فالحاكم، أي الذي يصدر عنه الحكم، هو الله تعالى وحده، فلا حكم إلا ما حكم به، ولا شرع إلا ما شرعه الله سبحانه وتعالى ، وعلى هذا دل القرآن وأجمع المسلمون، قال تعالى: ( إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )[114]
و ما وظيفة الرسل إلا التبليغ ، وما مهمة المجتهدين إلا التعرف على الأحكام والكشف عنها بواسطة المناهج والقواعد التي وضعها علماء الأصول.
غير أن العلماء اختلفوا في مسألتين لهما ارتباط بمسألة الحاكم ، المسألة الأولى : هل أحكام الله لا تُعرف إلا بواسطة الوحي، أو يمكن للعقل أن يدركها بدون وساطة الوحي؟
المسألة الثانية : وإذا أمكن للعقل أن يدرك حكم الله دون وساطة الوحي، فهل يكون هذا الإدراك مناط التكليف وما يتبعه من ثواب وعقاب في الآجل، ومدح وذم في العاجل؟
الرأي الأول : ذهب المعتزلة إلى أن في الأفعال حسناً ذاتياً، و قبحاً ذاتياً، وأن العقل يستقل بإدراك الحسن أو القبح في الأفعال بالنظر الى صفات الفعل وما يترتب عليه من نفع أو ضرر.
وأن هذا الإدراك العقلي لا يتوقف على الوحي وتبليغ الرسل، بل يمكنللعقل إدراك ذلك، فحسن الفعل أو قبحه أمران عقليان لا شرعيان، وأن حكم الله يكون وفق ما أدركته العقول البشرية من حسن الأفعال أو قبحها، فما رآه العقل حسناً فهو الحسن شرعا ومطلوب فعله، ويمدح فاعله ويذم تاركه، وما رآه العقل قبيحاً فهو القبيح شرعا ويطلب من الإنسان تركه، ويمدح على تركه ويذم على فعله[115].
فأحكام الشرع في نظر أصحاب هذا الرأي لا تأتي إلا وفق ما أدركه العقل من حسن الأفعال و قبحها، وما لم يدرك العقل حسنه أو قبحه كما في بعض العبادات و كيفياتها فيكشفها أمر الشارع أو نهيه فيبين حسن أو قبح هذه الأفعال.
وينبني على هذا الرأي: أن الإنسان مكلف قبل بعثة الرسل و قبل بلوغ الدعوة ، إذ يجب عليه أن يفعل ما أدرك حسنه من الأفعال ويترك ما أدرك قبحه من الأفعال، لأن ذلك هو حكم الله، وتقع عليه بموجبه التكليف في الدنيا والحساب في الآخرة وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب.
الرأي الثاني: ذهب متقدمو الأشاعرة إلى أن العقل لا يستقل بمعرفة الحسن والقبح، وأن الحسن والقبح يعرفان بالشرع، قال الأشعري : " وأجمعوا على أن القبيح من أفعال خلقه ما نهاهم عنه، وزجرهم عن فعله، وأن الحسن ما أمرهم به، أو ندبهم إلى فعله، أو أباحه لهم "[116] بينما ذهب متأخرو الأشاعرة إلى أن العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها[117]، غير أن متأخري الأشاعرة ذهبوا إلى أن العقل يستقل بمعرفة حسن الأشياء وقبحها غير أن استحقاق الثواب والعقاب لا يكون إلا بالشرع، فالفعل الذي أُمر به أصبح حسنا والفعل الذي نُهي عنه أصبح قبيحا.
المحكوم فيه : وهو الأفعال
تعريف المحكوم فيه: هو فعل المكلف الذي تعلق به خطاب الشارع.
الحكم تكليف بفعل:سواء كان فعلا إيجابيا أو سلبيا (الكف فعل عند جمهور العلماء )
شروط المحكوم فيه: يشترط علماء الأصول بالفعل المحكوم فيه لصحة التكليف به أربعة شروط
1 - أن يكون الفعل معلومًا للمكلف علمًا تامًّا حتى يتجه قصده للقيام به ويستطيع فعله
2 - أن يعلم المكلف مصدر التكليف بالفعل بأنه من اللَّه تعالى، لكي يكون التنفيذ طاعة وامتثالًا لأمر اللَّه تعالى، ولكي يتجه قصد المكلف لموافقة طلب اللَّه تعالى في التزام أحكامه بما يجب فيه قصد الطاعة والتقرب، ولهذا السبب لا يقبل المسلم حكمًا إلا إذا عرف دليله الشرعي، فيبدأ الفقهاء في كل بحث بذكر الدليل الشرعي أو الأصل الشرعي، لإقامة الحجة على المكلفين بتنفيذ الفعل والتقيد به
بأن تتوفر فيه القدرة والعقل والتمكن من العلم إذا قصده واتجه إليه، بأن يكون بالغًا عاقلًا قادرًا على معرفة الأحكام بنفسه أو بسؤال أهل العلم عنها
3 - ن يكون الفعل المكلف به ممكنًا، بأن يكون في قدرة المكلف أن يفعله أو أن يتركه ، ويترتب عليه نتائج هي :
أ - أنه لا يصح شرعًا التكليف بالمستحيل، سواء كان مستحيلًا لذاته أو مستحيلًا لغيره .
ب - لا يصح شرعًا تكليف المكلف بأن يفعل غيره فعلًا أو يكف غيره عن فعل.
ج - لا يصح شرعًا التكليف بالأمور الفطرية التي لا كسب للإنسان فيها ولا اختيار.
د - حصول الشرط الشرعي، وهو الذي لا يصح عمل المكلف إلا به، كالطهارة بالنسبة للصلاة، والإيمان بالنسبة للعبادات.
التكليف بالمشقة :
إن كل عمل يقوم به الإنسان لا يخلو من مشقة، ولو في طعامه وشرابه، ولذا تقسم المشقة إلى نوعين:
أولًا: المشقة المعتادة:
وهي المشاق التي جرت العادة على احتمالها والاستمرار عليها، وتدخل في استطاعة المكلف، وهذا النوع موجود في التكاليف الشرعية، واشتراط الإمكان والقدرة في التكليف لا يستلزم انتفاء المشقة كلية ، لأن التكليف فيه زيادة على ما اعتاد عليه الإنسان قبل التكليف، و لا منافاة بين القدرة على الفعل وكون الفعل شاقًّا، فالتكاليف الشرعية في جملتها لا تخلو من مشقة سواء كانت يسيرة أو كبيرة، لأن التكليف إلزام والإلزام اختبار وكلفة ومشقة، والتكليف يهدف إلى تدريب النفس على فعل الطاعات وترك المحرمات، وذلك كله نوع من المشقة، قال - صلى الله عليه وسلم: ( حُفَّتِ الجنةُ بالمكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات )[118] فالوضوء والصلاة والحج فيها مشقات على المكلف، ولكنها لا تخرج عن العادة بحيث يستطيع المكلف أن يتحملها ولا يلحقه ضرر إذا داوم عليها[119].
فهذه المشقة المرتبطة بالتكاليف الشرعية ليست مقصودة من التشريع، وإنما المقصود منها تحقيق المصالح المترتبة عليها، ودرء المفاسد المتوقعة منها، فيجب على المكلف أن يتحمل هذه المشقة التي لا تنفك عن التكاليف لتحقيق هذه المصالح، كما يتحمل المريض الدواء المر من أجل الشفاء، فالمقصود في الصوم مثلًا تهذيب النفس وتربية الروح، وتعويد المرء على الصبر، وليس المقصود إيلام النفس بالجوع والعطش.
ويجب على المكلف أن يتحرى مقاصد الشريعة في التكليف، وأن لا يطلب المشقات التي فيها، ومن فعل ذلك ظانًّا زيادة الأجر والتقرب فقد أخطأ، ولا أجر له، ولكن عليه أن يقصد العمل الذي يعظم أجره وتعظم مشقته[120].
ثانيًا: المشقة غير المعتادة
وهي المشقة الخارجة عن العادة، وهي المشقة التي لا يحتملها الناس ولا يمكن أن يداوموا عليها، وأن المداومة على هذه المشقة يرهق المكلف ويقطعه عن التكليف، ويناله الضرر والأذى في النفس والمال، وهذا يتنافى مع مقاصد الشريعة[121]، وهذا النوع لم يرد في التكاليف الشرعية إلا استثناء، وإذا حصلت مثل هذه المشقة، لعارض ما، فقد شرع سبحانه وتعالى الرخصة ورغب في ترك العزيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه )[122] ، مثال ذلك المشقة التي تلحق المريض والحامل والمرضع في الصيام ، فرخص اللَّه تعالى لهم في الإفطار، ومثل المشقة أوالضرر الذي يلحق المريض عند استعماله الماء للطهارة فرخص الشارع له في التيمم،
ولقد ورد النهي من الشارع عن قصد تلك المشقة في العبادات، ومنع الناس من اللجوء إليها، فنهى عن صوم الوصال، وعن المثابرة في قيام الليل، والترهب للعبادة، والصيام في الشمس، والحج ماشيًا، فقد قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم : ( أما واللَّه إني لأخشاكم للَّه وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )[123] وقال عمن نذرت أن تحج ماشية: ( إن اللَّه لغني عن مشيها )[124] وقال - صلى الله عليه وسلم: ( خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن اللَّه لا يمل حتى تملوا )[125] ، وقال: (هلك المتنطعون )[126] وقال: ( إن هذا الدين متينٌ فأوغل فيه برفق )[127] وقال: ( إن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى )[128] ، وقال - صلى الله عليه وسلم : ( ليس من البر الصيام في السفر )[129]
المحكوم فيه
تعريف المحكوم فيه: هو فعل المكلف الذي تعلق به خطاب الشارع[130] .
وذلك أن كل حكم من أحكام الشارع يتعلق بفعل من أفعال المكلفين سواء كان الحكم اقتضاء أو تخييرًا أو وضعًا، وهذا الفعل إما أن يكون واجبًا أو مندوبًا أو مكروهًا أو حرامًا أو مباحًا، وإما أن يكون سببًا أو مانعًا أو شرطًا .
الحكم تكليف بفعل: فالحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف، فهو مأموربأن يقوم بأداء فعل من الأفعال أو الكف عنه، فإن كان الحكم طلب فعل بالإيجاب فقد تعلق الحكم بفعل الواجب على سبيل الحتم والإلزام ، كالجهاد والصلاة، أو كان الحكم طلب فعل بالندب فقد تعلق بفعل مندوب بدون حتم كتوثيق الدين وأداء السنن.
وإن كان الحكم طلب ترك بالتحريم أو الكراهة فيتعلق الحكم أيضًا بفعل عند الجمهور، وهو كف النفس عن فعل المحرم في القتل والزنا، لأن النهي عن الشيء أمر بضده، أو كف النفس عن فعل المكروه[131].
شروط المحكوم فيه: يُشترط في الفعل المحكوم فيه لصحة التكليف به أربعة شروط، وهي:
أولًا - أن يكون الفعل المكلف به معلومًا للمكلف علمًا تامًّا حتى يتجه قصده للقيام به ويتسنى له فعله، فلا يصح التكليف بالمجمل إلا بعد تفصيله، فالمكلف لا يطالب بالواجبات مثلا كالصلاة والزكاة والحج والجهاد والإنفاق ولا يطالب بترك المحرمات كالامتناع عن شرب الخمر والزنا والسرقة وفحش القول إلا بعد أن يعلم حكم اللَّه فيها بالإيجاب أو التحريم، وبعد أن يعرف الأركان والشروط وتفاصيل أحكامها، أما قبل العلم فلا يتعلق الخطاب بفعله، ولا يطالب بالفعل أو بالترك، ولا يستحق الثواب ولا العقاب[132].
ثانيًا - أن يعلم المكلف مصدر التكليف بالفعل، أي يعلم بأنه من اللَّه تعالى، فيكون الالتزام بالفعل طاعة وامتثالًا لأمر اللَّه تعالى،
والمراد بذلك إمكان علمه به، بأن تتوفر فيه القدرة والعقل والتمكن من العلم، أي يكون بالغًا عاقلًا قادرًا على معرفة الأحكام بنفسه أو بسؤال أهل العلم عنها، وعندئذ يتحقق الشرط بالعلم بما كلف به، فيتعلق التكليف به، ومن ثم يجب عليه تنفيذه والالتزام بآثاره، فإن قصر فلا يقبل منه الاعتذار بجهل الأحكام[133].
ولا يشترط العلم بالحكم علما فعليا، وإنما يشترط إمكانية العلم، لأنه لا يمكن ذلك، ولو اشترط أن يكون العلم بالأحكام فعليا لفتح باب الاعتذار بجهل الأحكام، وادعى كل شخص عدم علمه به[134]، ولذلك قال الفقهاء: " لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي"
أما إذا لم يتوفر العقل والقدرة على العلم كالصبي والمجنون ومن أسلم حديثًا ودخل دار الإسلام، فلا يكون مأمورًا، لأنه لا يتمكن من النظر والبحث والعلم بالحكم.
ثالثًا - أن يكون الفعل المكلف به ممكنًا، بأن يكون في قدرة المكلف ويستوي في ذلك التكليف بالفعل أو التكليف بالترك. ويتفرع على هذا الشرط ثلاثة مسائل هي :
1- لا يصح شرعًا التكليف بالمستحيل، سواء أكان المستحيل لذاته ( الاستحالة المطلقة ) أو المستحيل لغيره ( الاستحالة النسبية )
والمستحيل لذاته هو ما لا يتصور العقل وجوده، كالجمع بين الضدين، كأن يكون الفعل واجبًا ومحرمًا في نفس الوقت على شخص واحد، والجمع بين النقيضين كالنوم واليقظة، فلا يصح التكليف بالمستحيل لذاته عند الجمهور[135].
أما المستحيل لغيره، وهو ما يتصور العقل وجوده، ولكن لم تجر العادة بوقوعه، كالمشي من المريض المقعد، والطيران من الإنسان بدون أداة، والمشي على الماء، وهكذا، فلا يصح التكليف بالمستحيل لغيره عند الجمهور أيضًا، وهو قول الماتريدية ومعهم أبو حامد الإسفراييني والغزالي وابن دقيق العيد من الشافعية.[136]
والأدلة على عدم صحة التكليف بالمستحيل كثيرة منها المنقول و المعقول فمن الآيات القرآنية قوله تعالى ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا )[137] وقوله تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا مَا آتَاهَا )[138] ،
أما الدليل من المعقول أن التكليف يقصد به الامتثال والمستحيل خارج عن قدرة المكلف فكان التكليف به عبث، والشارع الحكيم منزه عن العبث[139] .
وذهب جمهور الأشاعرة إلى جواز التكليف بالمستحيل لذاته والمستحيل لغيره، لوقوعه في الشرع في تكليف العاصي بالإيمان مع استحالة إيمانه لعلم اللَّه تعالى بعدم إيمانه.
واستدلوا في قوله تعالى: ( رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ )[140] على جواز التكليف بالمستحيل لغيره، لأن سؤال رفعه يدل على جواز وقوعه، ولأن التكليف بالمستحيل هو اختبار للمكلفين بالأخذ في الأسباب والمقدمات التي كلفوا بها لاكتساب الأجر والثواب، وإن لم يترتب عليها حكم ولا ثمرة .
وهذا الاختلاف نظري، لأن العلماء اتفقوا على عدم وقوعه في الأحكام التشريعية، وأن الواقع العملي أن الشارع لم يكلف المكلف إلا بما هو في مقدوره أن يفعله، لقوله تعالى: ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا )، قال الشوكاني: " أن الخلاف في مجرد الجواز لا يترتب عليه فائدة أصلً "[141]
2 - لا يصح شرعًا تكليف المكلف بأن يفعل غيره فعلًا أو يكف غيره عن فعل، لأن هذا التكليف ليس ممكنًا، ولا يدخل في مقدوره المكلف.
فلا يكلف شخص بفعل شخص ، فلا تكليف لشخص بأن يصلي أبوه، أو أن يكف صديقُه عن الفواحش، وبالتالي لا يسأل الإنسان عن فعل غيره، ولا يعاقب مكانه، لقوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ )[142] وقوله تعالى: ( وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )[143] فالإنسان مسؤول عن أفعاله فقط، ولا يكون مسؤولًا عن غيره إلا بما وجب عليه من الرعاية أوالتربية أوالنصح أو الوعظ للزوجة والأولاد والطلاب والناس من حوله.
وكل ما يكلف به الإنسان تجاه غيره هو أن يقدم له النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي هو في مقدوره، ، لقوله تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )[144] ولقوله - صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )[145]
النيابة عن الغير :
اتفق العلماء أن النيابة عن الغير تجوز في المعاملات، ولا تجوز في الإيمان وأصول العقيدة ، واتفقوا أن النيابة في الصلاة لا تصح،
وأما الصوم فقال بعض الشافعية وأحمد بجواز النيابة فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )[146] وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي بعدم جواز النيابة في الصوم لقول ابن عباس: ( لا يصلِّ أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد )[147] ، وبما روي عن عائشة: ( لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم )[148]، ولأنها عبادات بدنية محضة فلا تصح فيها النيابة، أما الحج فقال الجمهور بجواز النيابة عنه، ورُوي عن الإمام مالك بعدم جوازه وقيل بجوازه[149] .
3 - لا يصح التكليف بالأمور الفطرية وهي الأشياء التي لا كسب للإنسان فيها ولا اختيار من الأمور الوجدانية والجبلية، لأنه لا قدرة للإنسان على جلبها ولا على دفعها، كالغضب، والحزن والفزع والحب والكره وكذلك الصفات الخَلقية كالطول والقصر والسواد والبياض، وغير ذلك من الغرائز التي خلقها اللَّه تعالى في الإنسان، ولا تخضع لإرادة المكلف، وبالتالي فهي خارجة عن إرادته، فلا يكلف بها، لأنها تكليف بما لا يطاق [150] والنصوص الواردة والتي قد تدل في ظاهرها على التكليف بهذه الأمور فلا يقصد منه ظاهرها، بل يكون التكليف واردًا على أسبابها أو نتائجتها .
مثل قوله تعالى: ( وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )[151] فالظاهر أن الآية تنهى الإنسان عن الموت إلا وهو مسلم، والموت ليس بيد الإنسان، فتُصرف الآية عن ظاهرها، ويكون المعنى أن المكلف مطلوب منه الدخول في الإسلام، واتخاذ الأسباب ُلتثبيت الإيمان وتقوية العقيدة، ليعيش مسلمًا حتى الموت.
ومثل قوله تعالى : ( لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ )[152] فالآية تنهى عن الحزن في المصيبة، وتنهى عن الفرح بالرزق، والأسى والفرح أمران نفسيان لا يقدر عليهما المكلف، فيكون المطلوب من المكلف أن لا يبالغ في الحزن، وأن لا يزهو بالرزق والنعمة، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم: ( لا تغضب )[153] ، فظاهره التكليف بعدم الغضب، وهو غير مستطاع للمكلف خاصة عند وجود سببه، وفي الحقيقة أن المعنى هو الامتناع عن أسباب الغضب، والامتناع عما يعقب الغضب من الانتقام أوالخروج عن الحالة الطبيعية للإنسان العادي ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم: ( اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )[154] وهو ميل القلب لبعض نسائه[155] .
إن المطلوب شرعًا أن يسعى الإنسان لتهذيب نفسه والتحكم في الغرائز والميول والعواطف الفطرية، وأن يرقى بها نحو الأخلاق والفضائل، وهو ما تسعى الشريعة الإسلامية إليه ليكون إنسانا كاملا عبدا لله وخليفته في الأرض .
رابعًا - حصول الشرط الشرعي، وهو الذي لا يصح عمل المكلف إلا به كالطهارة لصحة الصلاة، والإيمان لصحة العبادات
وقد اختلف العلماء في صحة تكليف الإنسان بالفعل قبل حصول الشرط، ويتجلى هذا الشرط في مسألة أصولية مشهورة، وهي هل الكفار مكلفون بفروع الشريعة ؟
بعد أن اتفقوا على أنهم مكلفون بالإيمان وأصول الدين ، لقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ )[156].
ذهب الجمهور إلى عدم اشتراط الشرط الشرعي للتكليف، وأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأن آيات التكليف وردت عامة تخاطب الناس جميعًا، فيشمل الخطابُ المؤمنين والكافرين، وأن الآيات التي وردت في عقاب الآخرة تصرح بأن الكافر استحق العقوبته على ترك الصلاة والزكاة، وأن العقل لا يمنع ذلك.
وذهب الحنفية إلى يشترط حصول الشرط الشرعي أولًا لصحة التكليف، فإذا لم يتحقق الشرط فلا يكون العبد مكلفا بها، وأن الكفار غير مكلفين بفروع الشريعة.
المشقة في التكليف بالأفعال :
ويقودنا النقاش في مسألة اشتراط أن يكون الفعل ممكنًا ومقدورًا للمكلف، إلى مسألةُ التكليف بالمشقة في الأفعال، فإن كل عمل للمكلف لا يخلو من مشقة، ولو في طعامه وشرابه، ولذا قسم العلماء المشقة إلى نوعين:
المحكوم عليه
تعريف المحكوم عليه : هو الشخص الذي تعلق خطاب اللَّه نعالى بفعله، ويسمى المكلف
شروط المحكوم عليه:
أولًا: أن يكون قادرًا على فهم دليل التكليف : أن يفهم بنفسه خطاب الشارع في القرآن والسنة لأن طاعة اللَّه تعالى وامتثال أوامره، والابتعاد عن نواهيه، يتوقف على فهم الخطاب، أما العاجز الذي لا يملك قدرة لتفهم الخطاب فلا يمكنه أن ينفذ ما كُلِّفَ به، وأن يمتثل الأحكام وأن يتجه قصده إليها،
إن المراد من فهم الخطاب التصور وإمكان الفهم، فمن أمكنه فهم الخطاب، وتصور الدليل، فهو مكلف من اللَّه تعالى، سواء كان مصدقًا ومعتقدًا به أم لا
إن الصبي والمجنون والسكران غير مكلفين
أن الغافل والسكران والنائم وغيرهم لا يتعلق بفعلهم الحكم التكليفي، وهو ما فيه طلب أو تخيير، وأن الحكم الوضعي لا يشترط فيه العلم والخطاب، ولا يشترط فيه البلوغ والعقل
ثانيًا: أن يكون المكلف أهلًا لما كلف به
الأهلية : هي صلاحية الشخص للإلزام والالتزام
قسم علماء الأصول الأهلية إلى قسمين: أهلية وجوب وأهلية أداء،
أهلية الوجوب: فهي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات.
أهلية الأداء: فهي صلاحية المكلف لأن تعتبر أقواله وأفعاله، سواء أكانت في العقيدة أم في العبادات أم في المعاملات أم في العقوبات، وهذه الأهلية تساوي المسؤولية، وأساسها البلوغ مع العقل.
ويمر الإنسان في أهلية الأداء عند الجمهور في ثلاث مراحل، وهي:
1 - الإنسان عديم أهلية الأداء أصلًا، وهو الطفل من ولادته حتى سن التمييز، كذا المجنون طوال جنونه، فالطفل والمجنون لا عقل لهما، وبالتالي ليس لهما أهلية أداء، ولا تعتبر التصرفات التي تصدر منهما، ولا يترتب عليها أثر شرعي، فالإيمان غير معتبر، والصلاة لا أثر لها، والعقود والتصرفات باطلة، أما الجنايات فيتعلق بها الضمان المالي، ولا يقتص من الطفل والمجنون بدنيًّا.
2 - الإنسان ناقص أهلية الأداء، وهو الصبي المميز الذي بدأ يدرك بعض الأشياء، ويمر في مرحلة التطور والنماء العقلي الذي يكتمل بالحلم والبلوغ، ويلحق به المعتوه ضعيف العقل.
فالتصرفات التي تصدر عن المميز أو المعتوه في المعاملات ينظر فيها: فإن كانت نافعة له نفعًا محضًا، كقبول الهدية والصدقة، فهي صحيحة بدون إذن وليه، وإن كانت ضارة به ضررًا محضًا كالتبرع وإسقاط حقه فهي باطلة، ولا تصح إجازتها من الولي، وإن كانت تصرفاته دائرة بين النفع والضرر، كالبيع والشراء، فهي صحيحة، ولكنها موقوفة على إجازة وليه، فإن أجازها الولي نفذت، وإن لم يجزها بطلت، وهذا عند الجمهور خلافًا للشافعية.
وإن الصبي المميز، وإن كان عنده عقل وفهم وتمييز، ولكنه ليس كاملًا، فلا تتعلق به بالتالي أحكام التكليف، لأن اللَّه تعالى قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦]، وقد اختلف العلماء في اعتبار أقواله وأفعاله في الإيمان والعبادة، أما في الجنايات فيعامل معاملة الصبي غير المميز في الضمان المالي دون البدني.
3 - الإنسان كامل أهلية الأداء، وهو كل من بلغ عاقلًا، وهذه الأهلية تعتمد على العقل وترتبط بالبلوغ، لأنه مظنة العقل.
وفي هذه الحالة تكون جميع تصرفات الإنسان معتبرة، وتترتب عليها الحقوق والواجبات، ويكون الإنسان صالحًا لصدور التصرف منه على وجه يعتد به شرعًا، ويكون مخاطبًا بجميع التكاليف الشرعية في العقيدة والعبادات والأخلاق والمعاملات والعقوبات، ولكن لا تسلم له أمواله إلا إذا بلغ رشيدًا وتأكد الولي أو القاضي من رشده.
عوارض الأهلية:
1 - العوارض التي تعرض لأهلية الأداء فتزيلها أصلًا، كالجنون والنوم والإغماء والإكراه، ويصبح الإنسان في هذه الحالات عديم الأهلية تمامًا، ولا يترتب على تصرفاته أثر شرعي، وتنعدم عنه التكاليف
2 - العوارض التي تنقص أهلية الأداء كالعته، فإذا أصاب البالغ العاقل حجر أو عته فلا تزول عنه أهلية الأداء بل تنقص، وتصح منه التصرفات النافعة دون غيرها كالصبي المميز.
3 - العوارض التي تغير بعض الأحكام، كالسفه والغفلة والدَّيْن، فإذا أصاب المكلف سفه أو غفلة أو دين فلا يؤثر ذلك على أهليته، فلا تزول ولا تنقص، ولكن تتغير بعض الأحكام الناشئة عن تصرفاته، كالحجر عن تصرفاته المالية بالمعاوضة والتبرع للمحافظة على ماله حتى لا يبقى عالة على غيره، أو للمحافظة على حقوق الدائنين الذين يتضررون بتصرفه .
مصادر التشريع الإسلامي
مقدمة : خلق الله الإنسان واصطفاه واستخلفه في الأرض وسخر له ما في الكون ليكون عبدا لله وخليفة .
( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة 38 .
فلم يخلقه عبثا ولم يتركه سدى بل أرسل له الرسل ليرسم له منهج الحياة ليتمسك بأحكام الله ويحقق الخلافة والالتزام بشريعته وهدايته ، وكانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة الخاتمة هي منهج الله الذي ارتضاه لعباده، فأحكام الله تؤخذ منها وتستقى من الوحي.
الأدلة :
لغة : جمع دليل وهو المرشد وهو البرهان والحجة حسيا كان أو معنويا،قد دَلَّهُ على الطريق يدله بالضم ِدَلاَلةً بفتح الدال وكسرها [157] .
اصطلاحا: هو ما يمكن بالنظر فيه التوصل إلى إدراك حكم شرعي على سبيل القطع أو الظن[158] .
تقسيم مصادر التشريع: تقسيم الأدلة من حيث أصلها إلى:
1- مصادر نقلية كالكتاب والسنة والإجماع والعرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي، وهي التي لا دخل للمجتهد فيها، وتوجد قبل المجتهد.
2 - مصادر عقلية وهي التي تعتمد في تكوينها ووجودها على المجتهد، وهي القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع.
وهذان القسمان متكاملان؛ لأن الاستدلال بالدليل النقلي لا بد فيه من بذل الجهد والتدبر والنظر، والاستدلال بالمعقول لا بد أن يكون معتمدًا على النقل، وإن مصادر الشريعة لا تنافي قضايا العقول.
تقسيم الأدلة من حيث استقلالها: وتنقسم المصادر من حيث استقلالها إلى قسمين:
1- أدلة مستقلة : وهو كل أصل مستقل بنفسه في إثبات الأحكام مثل الكتاب والسنة والإجماع والعرف ومذهب الصحابي،
2 – أدلة تابعة: وهو كل دليل لا يكون أصلًا مستقلًا بذاته، ويحتاج إلى أصل فيه، كالقياس والاستحسان وسد الذرائع، وهذا القسم يكون مُظْهِرًا للحكم لا مثبتًا له.
تقسيم الأدلة من حيث اعتبار الفقهاء لها
وتنقسم المصادر من حيث الاتفاق عليها إلى قسمين:
1 - مصادر متفق عليها بين علماء أهل السنة والجماعة، وهي أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس .
2 - مصادر مختلف فيها، وهي الاستحسان والاستصحاب والمصالح المرسلة والعرف وشرع من قبلنا ومذهب الصحابي وسد الذرائع.
المصادر المتفق عليها اتفق علماء أهل السنة والجماعة على اعتبار القرآن الكريم والسنة الشريفة والإجماع والقياس مصادر أصلية لاستنباط الأحكام الشرعية منها، وسوف نعالج هذه الأدلة فنقوم بتعريفها وحجيتها وأحكام كل منها .
الكتاب الكريم:هو القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
المطلب الأول: في تعريف الكتاب
الكتاب لغة: يطلق على الكتابة نفسها وعلى المكتوب ، والفعل كَتَب بمعنى: حكم وقضى وأوجب،ومنه قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )[159] أي فرض وأوجب وقوله: ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي )[160] أي قضى وحكم[161].
الكتاب اصطلاحا : هو كلام الله تعالى، المنزل على سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، باللفظ العربي، المنقول إلينا بالتواتر، المكتوب بالمصاحف، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختوم بسورة الناس[162].
شرح التعريف:
1- كلام الله تعالى: القرآن الكريم كلام الله تعالى، والكلام جنس يشمل كل كلام، ويدخل في ذلك كلام الله المنزل على جميع الرسل، وإضافته إلى الله تعالى لتمييزه عن كلام غيره، فيخرج كلام المخلوقات من ، وتخرج به السنة النبوية والأحاديث القدسية؛ لأنها من كلام سيدنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وألفاظه، وإن كانت معانيها من عند الله تعالى.
2 - المنزل على سيدنا محمَّد: أي: كلام الله الذي نزل به جبريل الأمين على قلب محمَّد - صلى الله عليه وسلم . ويخرج به الكتب السماوية التي أنزلت على الرسل السابقين.
3 - باللفظ العربي: فالقرآن الكريم أنزل بلسان عربي مبين فهو عربي النظم والمعنى، نزل بلغة قريش، وليس فيه لغة أجنبية أخرى، والقرآن الكريم نظمه ومعناه من عند الله تعالى، بخلاف الحديث النبوي.
4 - المنقول إلينا بالتواتر: التواتر في اللغة: التتابع، وفي الاصطلاح: هو ما رواه جماعة عن جماعة، يستحيل تواطؤهم على الكذب، والتواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا يحتمل غيره، والقرآن الكريم وصل إلينا بالتواتر،
تلقى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم واعتنوا بحفظه وتلاوته، وكانوا يكتبونه على الألواح، وقد بلغ عدد كتّاب الوحي أربعين صحابيًّا، ثم انتقل إلى التابعين الذين حفظوه أيضًا في الصدور والكتب، وتم نقله إلى من بعدهم حتى وصل إلينا كما نزل عن طريق التواتر جيلًا بعد جيل، كتابة ومشافهة في كل عصر.
ويشترط في التواتر أن يبلغ عدد الرواة حدًّا يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، وأن يتوفر هذا العدد في كل طبقة ، واختلف العلماء في العدد الذي يتحقق به التواتر، ولكنهم اتفقوا على الضابط فيه وهو أن تشعر النفس باليقين والطمأنينة فيهم.
وهذا النقل بالتواتر هو من خصائص هذه الأمة بهدف حفظ كتابها، لأن حفظ القرآن هو حفظ للشريعة، وأن النقل بالتواتر كتابة وحفظًا جعل القرآن الكريم قطعي السند قطعي الثبوت، فثبوته يقيني لا شك فيه، ولا يحتمل التبديل والتغيير.
واتفق المسلمون على أن اللفظ أو القراءة غير المتواترة لا تعتبر قرآنًا، ولو كانت مشهورة، ولا تصح بها الصلاة، ولا يتعبد بتلاوتها، كالقراءة الشاذة والمشهورة؛ لأنه يستحيل في العرف والعادة أن يهمل ذلك، ولا ينقل بالتواتر مع توفر الدوافع على حفظه.
5 - المتعبد بتلاوته: هذه خاصيّة يتميز بها القرآن الكريم، وهي أنه متعبد بتلاوته، فتلاوته عبادة يؤجر عليها ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف )[163] .
6 - المكتوب في المصاحف: المصاحف جمع مصحف، ، فالقرآن دونه كُتّاب الوحي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجمعه أبو بكر رضي الله عنه، ثم نسخه عثمان رضي الله عنه في سبعة مصاحف، ونشره في الأمصار الإِسلامية، لتوحيد القراءة، ومنع الاختلاف في القرآن، وحَصَر العلماء كتابة المصحف بالرسم العثماني الذي كتب في عهد عثمان رضي الله عنه، للحفاظ التام والكامل على الشكل والمضمون لكتاب الله تعالى، ولذلك يشترط لصحة القراءة أن تكون موافقة للرسم العثماني.
7 - المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس: ويقصد بهذا التحديد لبدايته ونهايته زيادة الاحتياط حتى لا يزاد فيه شيء ليس من القرآن كالدعاء أو الثناء أو غير ذلك، وهذا الترتيب لسور القرآن الكريم وآياته توقيفي عن رسول الله عن جبريل عن رب العزة، ولا يجوز تغييره ولا تبديله[164].
وينبني على تعريف القرآن السابق عدة مسائل أهمها:
أولًا: ترجمة القرآن ليست قرآنًا: لأن القرآن نظمه ومعناه من عند الله تعالى، وأن القرآن اسم للنظم والمعنى، فالألفاظ والعبارات من عند الله تعالى وكذلك المعاني التي اشتملت عليها الألفاظ من عند الله ، ولذلك فإن الترجمة إلى لغة أجنبية مهما كانت دقيقة وكاملة لا تعد قرآنًا.
ثانيًا: القراءة المشهورة والقراءة الشاذة: القراءة غير المتواترة سواء أكانت مشهورة أم كانت شاذة، ليست قرآنا، ولا يتعبد بتلاوتها، ولا تصح الصلاة بها باتفاق المسلمين .
ثالثًا: هل البسملة من القرآن: اتفق المسلمون على أن "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" بعض آية من القرآن الكريم في سورة النمل، ثم اختلفوا في كونها آية من أوائل السور على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن البسملة آية من القرآن الكريم في أول كل سورة أو مع الآية الأولى من كل سورة إلا في سورة التوبة، وهو قول الشافعي.
واستدل على ذلك أن البسملة منزلة على رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - مع أول كل سورة، لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف
ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله في أول كل سورة )[165] وأنها كتبت مع القرآن بأمر الرسول - صلى الله
عليه وسلم - , وأن المسلمين أثبتوها في مصحف عثمان بالإجماع، وروت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى
الله عليه وسلم ( قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فعدَّها آية )[166]، وعن أبي هريرة رضي الله
عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ( فاتحة الكتاب سبع آيات، أولهنَّ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )[167]
القول الثاني : أن البسملة ليست آية في أوائل السور مطلقًا، وهو قول المالكية ، واستدلوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين )، أي بدون تسمية،
كما استدلوا بعمل أهل المدينة الذين لا يعتبرونها من القرآن الكريم، وعمل أهل المدينة حجة عند المالكية؛ وأن البسملة في أوائل السور للفصل بينها فقط [168]، وفي الحديث القدسي ( قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله )[169]
القول الثالث: أن البسملة آية واحدة من القرآن الكريم، وليست جزءًا من أوائل السور، بل وضعت للفصل بينها والتبرك فيها، وهو قول الحنفية[170]،
واستدلوا على كونها آية أنها كتبت في القرآن بأمر رسول الله، وأنها داخلة بين دفتي المصحف ومكتوبة بخط القرآن الكريم، وأن تواترها في أوائل السور لا يستلزم تواترها كآية، وإنما أنزلت للفصل بين السور، لحديث ابن عباس السابق، كما ترك قراءتها نصف القراء؛ لأنه ثبت عندهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تركها عند قراءة السور، وقراءة القراء متواترة[171].
المطلب الثاني: حجية القرآن الكريم:
اتفق المسلمون على حجية القرآن الكريم، وأنه يجب العمل بما ورد فيه والرجوع إليه لمعرفة أحكام الله تعالى ولا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا إذا لم يقف العالم على الحكم في القرآن الكريم.
أدلة حجية القرآن الكريم :
1 – القرآن ثابت بالتواتر فهو قطعي الثبوت
2- أنزل الله القرآن تبيانا لكل شيء ، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )[172]
3 - إعجاز القرآن الكريم، دليل قاطع على أنه من عند الله تعالى
أ - معنى الإعجاز:
الإعجاز لغة: نسبة العجز إلى الغير، وهو الضعف، وأعجزه الشيء فاته ، والمعجزة هي إعجاز الخصم عند التحدي[173]، والإعجاز في الكلام هو أن يؤدى المعنى بطريق أبلغ من جميع ما عداه .
والإعجاز في القرآن هو إظهار صدق النبي في دعوى الرسالة، بكون القرآن كلام في منتهى البلاغة إلى حد خرج عن سبل التعبير البشري، ولهذا عجزوا عن معارضته عند تحديهم، وامتازت معجزة محمَّد عليه الصلاة والسلام على المعجزات الأخرى أنها معجزة حية باقية خالدة في كل عصر، ودائمة في كل زمان.
ب - وجوه إعجاز القرآن الكريم:
* اتساق ألفاظه وعباراته ومعانيه وأحكامه ونظرياته:
فالقرآن الكريم كتاب كبير، شامل لموضوعات مختلفة في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع، ومع كل ذلك تجد الاتساق الكامل في الألفاظ، والعبارات، و المعاني و الأحكام، ، دون أن يكون فيه أو ضعف أو تناقض أو تعارض ، مصداقا لقوله تعالى: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا )
فالأسلوب بليغ في جميع السور والآيات، والألفاظ فصيحة من أوله إلى آخره، والعبارات راقية في كل جانب من جوانبه، مع كثرة آياته، ومع امتداد الفترة الزمنية التي نزل فيه خلال ثلاث وعشرين سنة، وما ذلك إلا لأنه كلام الله تعالى المنزل على محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم.
* توافق آيات القرآن الكريم مع حقائق العلم
لقد حث القرآن الكريم العقول على التدبر في آيات الله ولفت النظر إلى نظريات علمية كانت في متناول العقل العربي ومتناسبة مع حياة العرب في الجزيرة كالإبل والشمس والقمر والجبال والإنسان، كما أشار إلى حقائق علمية لم يتم كشفها إلا في العصر الحديث ، ولا يزال العلم يحقق إشارات القرآن الكريم في الكون والإنسان، قال تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )[174].
* إخباره عن وقائع يعجز البشر عن معرفتها: أخبر القرآن الكريم عن تاريخ الأمم الماضية، وحياة الأنبياء والمرسلين، مما يعجز البشر عن تذكره ومعرفته وخاصة من نبي أُمّي ومن أمة أمِّية قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )[175]
كما أخبر القرآن الكريم عن وقوع حوادث في المستقبل، وقد وقعت فعلًا، مثل انتصار الروم بعد هزيمتهم، قال تعالى: ( ألم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)[176] ومثل دخول مكة بعد الرجوع عنها، قال تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا )[177].
* فصاحة ألفاظه وبلاغة عباراته وقوة تأثيره فعبارات القرآن بليغة وفي أعلى مستويات البلاغة، وألفاظه متقنة ومختارة لتحقيق المعاني، يعرف ذلك العالم في اللغة ويتذوقه ، وقد تجلت قوة تأثير القرآن الكريم على النفوس والقلوب بما جاء في السيرة أن أبا سفيان والأخنس بن شُريْق وأبا جهل كانوا يتسللون ليلًا لاستماع القرآن الكريم من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن أثر القرآن كان السبب المباشر في إسلام كثير من الصحابة ، وأن كفار قريش خافوا على أنفسهم وأولادهم ونسائهم من أثر القرآن، ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ )[178].
وقد عبر عن ذلك أحسن تعبير الوليد بن المغيرة الذي أرسلته قريش ليفاوض رسول الله بالمال والسلطان والنساء على ترك الإِسلام، فتلا عليه القرآن الكريم، وعاد الوليد متأثرًا بالقرآن وقال: " إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر"[179]
* ما تضمنه القرآن الكريم من الأحكام الشرعية : إن الأحكام الشرعية التي تضمنها القرآن الكريم هي أحكام معجزة، فيها صلاح البشر في دنياهم وفي آخرتهم، وإن هذه الشريعة توازن بين مصالح الفرد ومصالح المجتمع، وترقى بالإنسان روحيا وعقليا وجسميا لتحقيق الشهود الحضاري ، وأن البشر مهما بلغوامن التقدم والحضارة والعلم لا يستطيعون، ولن يستطيعوا، أن يضعوا شريعة تصلح للبشرية كما فعل القرآن الكريم[180].
المطلب الثالث : في الأحكام التي وردت في القرآن
أولًا: أنواع الأحكام في الكتاب
1 - الأحكام الاعتقادية، وهي الأحكام التي تتعلق بالعقيدة والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وتُدرج هذه الأحكام في مادة العقيدة وعلم الكلام.
2- الأحكام الأخلاقية، وهي الأحكام الوجدانية التي تتعلق بالفضائل والأخلاق ، وبالسلوك ، وتدرس هذه الأحكام في علم الأخلاق.
3 - الأحكام العملية الفقهية، وتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أحكام العبادات التي تنظم علاقة الإنسان بربه، وهي أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج والكفارات والنذور والأضاحي.
القسم الثاني: أحكام المعاملات التي تنظم علاقة الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادًا أم جماعات.
وتنقسم أحكام المعاملات في الاصطلاح الفقهي الحديث إلى سبعة أقسام وهي:
- أحكام الأحوال الشخصية: وهي الأحكام المتعلقة بالأسرة، وتنظيم العلاقة بين أفرادها من الزوجين والأولاد والأقارب كالزواج والطلاق والنفقة والميراث.
- الأحكام المعاملات المدنية: وهي الأحكام التي تنظم العلاقات بين الأفراد، كالبيوع وعقود التوثيق والكفالة والرهن وعقود الشركات والقرض والوديعة والإعارة.
- الأحكام الجنائية: وهي الأحكام التي تتعلق بالجرائم وأحكامها و العقوبات، والتي شرعت من أجل الحفاظ على حياة الناس وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم، وتعرف بالحدود والقصاص والتعازير.
- أحكام المرافعات: وهي الأحكام التي تتعلق بنظام القضاء والإثبات لإقامة العدل بين الناس.
- الأحكام الدستورية: التي تتعلق بنظام الحكم ، وتبين علاقة الحاكم بالشعب، والعلاقة بين السلطات وحقوق الأفراد والجماعات، وطريقة اختيار الحاكم، والحريات .
- الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإِسلامية لغيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، وتنظيم علاقة الدولة بأهل الذمة المقيمين على أرضها.
- أحكام المالية العامة: وهي التي الأحكام التي تنظم الموارد العامة والمصارف في الدولة الإِسلامية.
ثانيًا: بيان القرآن للأحكام:
وبما أن القرآن الكريم هو مصدر التشريع الإسلامي، فقد وردت الأحكام فيه إما بطريقة تفصيلية وإما بطريقة مجملة
1 - البيان التفصيلي لبعض الأحكام، وذلك في نطاق محدود، والحكمة من البيان التفصيلي أن هذه الأحكام إما أنها تعبدية لا مجال للعقل والاجتهاد فيها كمسائل العقيدة، وإما لأنها أحكام معقولة المعنى ولحفظ مصالح ثابتة لا مجال لتغييرها بتغيير الزمن، أو اختلاف البيئات كأحكام المواريث.
2- البيان الإجمالي للأحكام الشرعية حيث يرد النص عليها في القرآن الكريم بشكل إجمالي لبيان القواعد العامة فقط، مثل أحكام العبادات في الصلاة والزكاة والصوم والحج، وكذلك أحكام المعاملات التي قد تأتي ببعض التفصيل وتأتي السنة لتفصل في ذلك.
والحكمة من ذلك أن الشريعة الإسلامية جاءت خاتمة لكل الشرائع فكان لا بد أن تأتي مجملة تبين القواعد العامة والأسس والمبادئ التي تتسم بالمرونة والشمول وتترك التفصيل للاجتهاد البشري حسب الظروف والأحوال وتغير المجتمعات وتطورها وليسهل تطبيقها في كل العصور وفي كل المجتمعات مهما اختلفت الأمكنة والأزمنة والعادات .
مثال ذلك الأمر بالشورى في قوله تعالى: (
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ )[181] ، وقوله : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )[182]
فالنص مجمل وعام، وأما التطبيق فله أشكال متعددة ، فتختار كل جماعة ما يناسبها من وسائل لتطبيق الشورى.
كمال الشريعة الإسلامية :
قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك تعارض بين ما ذكرناه من البيان الإجمالي في القرآن الكريم، الذي يحتاج للتفصيل وبين الآيات التي تصف القرآن بالكمال، مثل قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )[183] وقوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )[184] وقوله تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )[185] .
والحقيقة أنه لا تناقض بين الأمرين فالقرآن الكريم بيَّن الأحكام بشكل إجمالي ونص على القواعد العامة، ونبه على مقاصد الشريعة ، وترك للسنة تفصيل الأحكام ؛ وأمر بالتدبر والاجتهاد عن طريق القياس والاستحسان والاستصلاح، لأن آيات القرآن لا تكفي للنص على كل تفاصيل الشريعة، بل على العكس إن هذا الأسلوب يعطي للتشريع الإسلامي صفة المرونة والشمول، ويتيح المجال لتطبيق الشريعة في كل زمان ومكان.
رابعًا: دلالة آيات القرآن على الأحكام:
إن آيات القرآن الكريم ثابتة بطريق قطعي؛ لأنها نقلت إلينا بالتواتر فالآيات التي يقرؤها كل مسلم في بقاع الأرض هي نفسها التي تلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وهي التي نزل بها جبريل من اللوح المحفوظ من غير تبديل ولا تغيير، تحقيقًا لقوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )[186].
أما دلالة النص القرآني على الحكم فليست واحدة، فمنها ما هو قطعي الدلالة، ومنها ما هو ظني الدلالة، فالنص القطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه، ولا يحتمل تأويلًا آخر معه، كالنصوص التي وردت فيها أعداد معينة أو أنصبة محددة في المواريث والحدود .
أما النص الظني الدلالة فهو ما يدل على عدة معان، أو يدل على معنى، ولكنه يحتمل معاني أخرى، بحيث يمكن تأويله أوصرفه إلى غيره من المعاني، مثل لفظ القرء في قوله تعالى: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ )[187] ، فلفظ القرء في اللغة لفظ مشترك يدل على الطهر وعلى الحيض، فيكون المعنى ثلاثة أطهار أو ثلاثة حيضات، وكقوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا )[188] فاليد لفظ مشترك لليمنى واليسرى، ويحتمل أن يراد منها الأصابع إلى الرسغ أو إلى المرفق أو إلى الإبط، فجاءت السنة وبينت ذلك[189].
كيفية الاستفادة من القرآن الكريم:
1- إن القرآن الكريم هو أساس الشريعة وأصلها ومعتمدها في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع.
2 - يجب معرفة أسباب النزول؛ لأنها تعين على الفهم، وتساعد على بيان المراد من كلام الله تعالى.
3 - أن يعرف المسلم عادات العرب في أقوالها وأفعالها وتقاليدها، لأن القرآن الكريم نزل في مجتمعهم، فأقر الحسن منها، وأبطل القبيح
4 - الاعتماد على السنة في فهم كتاب الله.
المبحث الثاني في السنة الشريفة
تعتبر السنة المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وتتميز بكثرة الفروع، وزيادة التفصيل، ودقة التنظيم التشريعي؛ لأنها جاءت شارحة للقرآن الكريم، ومفصلة لقواعده الكلية التي جاءت في محكم آياته.
ولذا يجب الاعتماد عليها في فهم كتاب الله تعالى، نعالج في هذاالمبحث تعريف السنة وحجيتها وأنواعها وثبوتها.
المطلب الأول : تعريف السنة
تعريف السنة لغة: هي الطريقة والعادة، حسنة كانت أم سيئة
تعريف السنة اصطلاحًا: هي ما نقل عن رسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير[190].
أولًا: السنة القولية: هي الأحاديث التي نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
ثانيًا: السنة الفعلية: وهي الأفعال والتصرفات التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم بها في دائرة العمل والتشريع.
ثالثًا: السنة التقريرية: هي ما أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما صدر عن الصحابة من أقوال وأفعال، بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه ورضاه، فيكون إقراره وموافقته على القول أو الفعل كأنه صادر عنه،
المطلب الثاني : حجية السنة
اتفق العلماء على أن السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقصد التشريع حجة على المسلمين، ومصدر تشريعي متى ثبتت بسند صحيح إما بطريق القطع، أو غلبة الظن، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة :
أولًا: القرآن الكريم: قال تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )[191] ، وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )[192]، ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )[193] (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )[194] (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)[195].
ثانيًا: إجماع الصحابة
أجمع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد وفاته على وجوب اتباع سنته والعمل بها والالتزام بما ورد فيها من أحكام، وتنفيذ ما فيها من أوامر.
ثالثًا: المعقول:
1- إن القرآن الكريم فرض على الناس فرائض مجملة، وشرع لهم أحكامًا عامة، وأخبرهم عن واجبات كثيرة، ولم يبين القرآن الكريم تفصيل هذه الفرائض والأحكام والواجبات، ويستحيل عقلًا استنباط ذلك وكيفيته إذا أراد المكلف المخاطب بالقرآن الكريم أن يؤدي هذه الفرائض، وينفذ تلك الأحكام بنفسه،
2 - ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجمة عملية للقرآن الكريم، وكانت أعماله وأفعاله صورة حية للأحكام الواردة في كتاب الله تعالى، وكانت أوصافه وأخلاقه تنفيذًا واقعيًّا لأوامر الله تعالى.
3 - إن وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ للناس كتاب الله تعالى، وأن يبينه لهم، فبلغ القرآن الكريم بنصه وحرفه، ونقله عن جبريل إلى المسلمين، أما البيان فهو بالأقوال والأفعال التي صدرت عن رسول الله، وقد ثبتت عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمرين معًا، وتكفل الله تعالى أن يحفظ الذكر، والقرآن الكريم لا يحفظ إلا بحفظ بيانه، وهو السنة .
تقسيم السنة من حيث السند:
اختلف العلماء في تقسيم الأحاديث الصحيحة من حيث السند إلى فريقين:
1- الجمهور: قسموا السنة من حيث السند إلى قسمين: متواتر وآحاد.
2 – الحنفية: قسموا السنة إلى ثلاثة أقسام، وهي المتواتر والمشهور والآحاد.
أولًا: الحديث المتواتر:
التواتر لغة: هو التتابع، ومنه تواتر القوم إذا جاء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، والمتواتر المتتابع
التواتر اصطلاحا: هو ما رواه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب[196]، ويكثر هذا القسم في السنن الفعلية، ويقل في السنن القولية، وقد أفرد له العلماء تصانيف خاصة مثل جلال الدين السيوطي في كتاب الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة،والسنة المتواترة حجة كاملة باتفاق العلماء، وتفيد العلم اليقيني القطعي في صحتها وثبوتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى توافرت شروط التواتر[197].
ثانيًا: الحديث المشهور: وهو ما رواه عن رسول الله صحابي أو اثنان أو جمع لم يبلغ حد التواتر، ثم رواه عن هؤلاء جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، ورواه عنهم جمع مثله، أي: إن الحديث المشهور كان آحاديًّا في الطبقة الأولى من رواته، ثم تواتر في الطبقة الثانية والثالثة[198].
يرى الجمهور أن الحديث المشهور في حكم حديث الآحاد، ويأخذ أحكامه، أما الحنفية فيرون أن الحديث المشهور مرتبة مستقلة بين الحديث المتواتر وخبر الآحاد، وأنه يشترك مع المتواتر في تخصيص عام القرآن، والزيادة عليه، وأنه يقيد مطلقه، ويفيد الطمأنينة والظن القريب من اليقين[199].
ثالثًا: حديث الآحاد: وهو ما رواه عن رسول الله شخص أو اثنان أو عدد لم يبلغ حد التواتر، ثم رواه عن هؤلاء مثلهم وهكذا حتى وصل الحديث إلى عصر التدوين[200].
وخبر الآحاد يفيد غالبية الظن من حيث وروده عن رسول الله متى توافرت فيه شروط الراوي التي وضعها علماء الحديث كالثقة والعدالة والضبط،
حجية خبر الآحاد.
اتفق العلماء على الاحتجاج بخبر الواحد، ولكنهم اختلفوا في طريق إثبات خبر الواحد، فاشترط بعضهم شروطًا معينة للاحتجاج بخبر الآحاد، بينما اشترط آخرون شروطًا غيرها، وسنعرض لدراسة هذا الموضوع فنبين أدلة الاحتجاج بخبر الواحد، ثم نذكر شروط قبوله.
أدلة الاحتجاج بخبر الواحد
استدل العلماء على وجوب العلم بخبر الآحاد بالقرآن والسنة والإجماع والقياس والمعقول.
أولًا: القرآن الكريم:
1- قال الله تعالى: ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )[201]، فالفرقة ثلاثة والطائفة واحد أو اثنان .
2 – ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا )[202].
ثانيًا: السنة
1 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ( نَضّر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حاملِ فقهٍ غيرِ فقيه، وربَّ حاملِ فقه إلى من هو أفقه منه ... )[203] ولذا فإن نَقَلَ الحديث واحد أو اثنان أو ثلاثة فيجب قبول الخبر والعمل به.
2 - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث في وقت أحد اثني عشر رسولًا إلى اثني عشر ملكًا يبلغون رسالته، ويدعونهم إلى الإِسلام، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسل الكتب إلى الولاة المسلمين بوساطة أحد الصحابة، وهذا يدل على أن الخبر الذي ينقله هذا المبعوث يجب قبوله والعمل به.
3 - كان الصحابة ينقلون الأحكام الشرعية بأخبار الآحاد ويبلغونها إلى أهلهم وذويهم وإخوانهم، وقد أقرهم رسول الله على ذلك، فهذا من السنة التقريرية على قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به.
ثالثًا: الإجماع: أجمع الصحابة على العمل بخبر الواحد الذي يرويه واحد أو اثنان، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى، فقد عمل أبو بكر بخبر المغيرة بن شعبة في إعطاء الجدة السدس في الميراث، وعمل عمر بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس.
رابعًا: القياس: قاس العلماء خبر الآحاد في الحديث على خبر الآحاد في القضاء، فالقاضي يحكم بناء على شهادة الرجلين أو الرجل والمرأتين بنص القرآن والسنة، وكذلك العالم يقبل خبر الآحاد في الحديث .
خامسًا: المعقول: وذلك أن خبر الآحاد يحتمل الصدق والكذب، ولكن اشتراط العدالة والضبط والعقل والثقة وغيرها من الشروط ترجح جانب الصدق على جانب الكذب، ومثل ذلك ما يجري بين الناس من قبول أخبار الآحاد في أمور الفتوى والتزكية والخبرة سواء في ذلك الأمور الدينية والأمور الدنيوية.
شروط العمل بخبر الواحد
شروط عامة متفق عليها في الراوي، كالإِسلام والبلوغ والعقل والضبط والعدالة.
شروط مختلف عليها:
أولًا: آراء الصحابة رضي الله عنهم: كان أبو بكر وعمر أحيانًا لا يقبلان الحديث إلا بشهادة اثنين على سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان علي يستحلف الراوي بأنه سمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.وهذه الطريقة لم تكن مطردة بإطلاق، فقد ثبت أن أبا بكر وعمر وعليًّا وغيرهم كانوا يقبلون أحاديث الآحاد بدون هذه الشروط.
ثانيًا: مذهب الحنفية: اشترط الحنفية لقبول خبر الآحاد والعمل به ثلاثة شروط وهي:
1- أن لا يعمل الراوي بخلاف ما يرويه، كما في حديث أبي هريرة في ولوغ الكلب من الإناء، وغسله سبع مرات، إحداهن بالتراب الطاهر، وكان أبو هريرة يكتفي بالغسل ثلاثًا.
2 - أن لا يكون موضوع الحديث مما تكثر به البلوى.
3 - أن لا يكون الحديث مخالفًا للقياس والأصول الشرعية إذا كان الراوي غير فقيه، مثل حديث المُصَراة بردها وصاعًا من تمر، وعللوا هذا الشرط بانتشار نقل الحديث بالمعنى، وعدوا من غير الفقهاء أبا هريرة وأنسًا وسلمان وبلالًا.
ثالثًا: مذهب المالكية: اشترط المالكية للعمل بخبر الآحاد أن لا يكون مخالفًا لعمل أهل المدينة, لأن عمل أهل المدينة يعتبر كالحديث المتواتر، والحديث المتواتر يقدم على خبر الآحاد، لم يعملوا بحديث: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" لمخالفة عمل أهل المدينة له، ومثل حديث السلام على اليمين في الصلاة ثم السلام على اليسار، بينما عمل أهل المدينة بالسلام على اليمين فقط، وهو قول الإِمام مالك.
رابعًا: مذهب الشافعية: اشترط الإِمام الشافعي الشروط العامة لقبول الحديث وحددها في الراوي بأربعة، وهي:
1 - أن يكون ثقة في دينه معروفًا بالصدق في حديثه.
2 - أن يكون عاقلًا لما يحدث، فاهمًا له.
3 - أن يكون ضابطًا لما يرويه.
4 - أن يكون الخبر غير مخالف لحديث أهل العلم بالحديث.
وهذه الشروط تتعلق بصحة السند واتصاله، ولذلك لم يعمل بالحديث المرسل إلا بشروط[204].
خامسًا: مذهب الحنابلة: يشترط الإِمام أحمد صحة السند لقبول خبر الآحاد والعمل به، كالشافعية، ولكن الفرق بينهما في بعض الجزئيات، مثل قبول الحنابلة للحديث المرسل، خلافًا للشافعية لأن الإِمام أحمد لا يشترط اتصال السند، ومثل تقديم الحديث الضعيف على القياس[205].
منزلة السنة في التشريع:
السنة حجة كاملة في ثبوت الأحكام، وأنها مصدر تشريعي مستقل، وأن الأحكام التي تثبت في السنة لا تقل منزلة عن الأحكام في القرآن الكريم، فكلا الأمرين من عند الله تعالى، وكل حكم في السنة يعتبر حكمًا من عند الله تعالى، وأحكام الله تعالى متساوية، لا تفاوت بينها، ولا تمييز لأحدها عن الآخر، فالمسلم مكلف بكل حكم يثبت في السنة بنفس قوة تكليفه بالأحكام الواردة في القرآن الكريم، وأنه يثاب على الفعل، ويعاقب على الترك.
درجة السنة بين مصادر التشريع اتفق العلماء على أن السنة مصدر تشريعي مستقل، ولكنها تأتي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم، فالعالم أو المجتهد يرجع أولًا إلى كتاب الله تعالى لمعرفة حكمه في الواقعة، فإن لم يجد فيه مبتغاه رجع إلى السنة ليستخرج الحكم الشرعي ويستنبطه منها.
أولا : السنة: والدليل هو حديث معاذ بن جبل عندما أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، وسأله: "كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ " فقال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فإن لم تجد؟ " قال أجتهد رأيي ولا آلو. فسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيده على هذا الترتيب للسنة بعد القرآن الكريم، وأقره عليه بقوله: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله ورسوله"
ثانيا :عمل الصحابة: فقد ثبت عن أبي بكر وعمر وابن عباس وغيرهم ما يجزم بأنهم كانوا يرجعون في القضاء والأحداث والفتاوى إلى كتاب الله، فإن لم يجدوا في كتاب الله تعالى بحثوا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن مسعود: من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم .
ثالثا: المعقول:
1 - القرآن الكريم قطعي الثبوت جملة وتفصيلا، أما السنة فهي قطعية الثبوت جملة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما في التفصيل فمنها ما هو قطعي الثبوت كالحديث المتواتر، وهو قليل، ومنها ما هو ظني الثبوت كالحديث المشهور وحديث الآحاد، وهما أغلب السنة، والقطعي يقدم على الظني عقلًا بالاتفاق، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالقرآن الكريم معجزة بلفظه ومعناه، وأنه من كلام الله تعالى، أما السنة فهي كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام الخالق مقدم على كلام المخلوق قطعًا.
2 - جاءت السنة لتبين القرآن الكريم بالتأكيد والتقرير، أو بالتفسير والشرح، أو بالنسخ والزيادة، فيكون القرآن أصلًا، والسنة تبعًا له، ويترتب على ذلك أن يكون القرآن في الدرجة الأولى، والسنة في الدرجة الثانية، قال الآمدي: والبيان تابع للمبيَّن.
3 - القرآن الكريم محدد ومحصور، أما السنة فهي واسعة وغير محصورة، فكان الرجوع إلى القرآن أسهل منالًا، وأقرب مقصدًا،
مراتب السنة بالنسبة إلى القرآن الكريم:
1 - المرتبة الأولى: أن تكون السنة مقررة ومؤكدة حكمًا جاء في القرآن الكريم.
2- المرتبة الثانية: أن تكون السنة مُبينة حكمًا ورد في القرآن الكريم.
3 - أن تكون السنة مقيدة لحكم جاء في القرآن مطلقًا، مثل قوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) فاليد مطلقة، ولم توضح الآية الحد المطلوب في القطع، فجاءت السنة وبينت أن القطع من رسغ اليد اليمنى.
4 - أن تكون السنة مخصصة لحكم عام في القرآن الكريم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم: ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها )[206].
المرتبة الثالثة: أن تكون السنة منشئة لحكم جديد لم يتعرض له القرآن الكريم
المرتبة الرابعة: أن تكون السنة ناسخة للقرآن الكريم، وهذه المرتبة اختلف فيها العلماء على قولين:
القول الأول: أن السنة لا تنسخ القرآن، والقرآن لا ينسخ السنة،
القول الثاني: أن السنة تنسخ حكمًا ورد في القرآن الكريم، وهو قول الجمهور والبيضاوي والإسنوي والغزالي والجويني من الشافعية.
الإجماع
تعريف الإجماع:
الإجماع لغة : العزم على الأمر والقطع به، ومنه قوله تعالى: ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ )[207]ومنها قوله ص : ( لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل )[208] أي أعزموا، وَأَجْمَعْتُ الْمَسِيرَ وَالْأَمْرَ وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْحَرْفِ عَزَمْتُ عَلَيْهِ[209] والإجماع الاتفاق ومن ذلك قولهم أجمعوا على أمر أي اتفقوا، قال الحارث بن حلزة في معلقته:
أجمَعُوا أمرُهم بليلٍ فلمَّا … أصبَحُوا أصبحَتْ لهمْ ضَوضاءُ[210]
الإجماع اصطلاحا :
عرفه الكمال بن الهمام وهو: " اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - على أمر شرعي "[211]
وعرفه الشوكاني : " اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور "[212].
شرح التعريف :
الاتفاق: هو الاشتراك، وهذا يعم الأقوال والأفعال والسكوت والتقرير.
مجتهدي: ويقصد به العلماء الذين توفرت فيهم شروط الاجتهاد في الأحكام الشرعية، بذلك العوام وأهل التقليد وكل من لم يبلغ درجة الاجتهاد.
عصر: وهو الزمن، أي اتفاق المجتهدين من أمة محمد ص الموجودين في عصر واحد، فلا يشترط اتفاق المجتهدين في جميع العصور.
من أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم : وهذا تقييد للإجماع لأنه خاص بأمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم ويخرج بذلك إجماع الأمم الأخرى، كاتفاق علماء النصارى أو اليهود ، فلا يعتبر إجماعًا شرعيًّا، ولا يقبل، ولا يحتج به .
على أمر شرعي: والمقصود به الاتفاق على الأمور الشرعية، سواء كان قولًا أو فعلًا، أو اعتقادًا، أو تقريرًا، والإجماع حجة في الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات[213].
حجية الإجماع:
اتفق المسلمون على أن الإجماع مصدر من مصادر التشريع الإِسلامي، وأنه لا تجوز مخالفته، واستدلوا على ذلك بالقرآن الكريم والسنة والمعقول.
أولًا: نصوص القرآن الكريم
1 – قال الله تعالى: ( مَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )[214]، ووجه الاستدلال بالآية أن سوت الآية بين مخالفة المؤمنين ومخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوعيد، مما يدل على أنهما بمرتبة واحدة، فكما يجب على المسلم اتباع الرسول وعدم مخالفته، فيجب عليه متابعة سبيل المؤمنين أي اتفاقهم في الأحكام، وعدم مخالفتهم فيها[215].
2 - قال الله تعالى: ( وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )[216] ، فالآية تزكي هذه الآمة بكونها وسط بين الأمم لتشهد عليهم؛ لأن الله عدَّلها، فتجب عصمتها عن الخطأ قولًا وفعلًا،
3 - ( كنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )[217]
فالله وصف الأمة بأنها خير الأمم؛ لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيكون أمرهم ونهيهم حجة على المسلمين، ويكون إجماعهم على أمر شرعي مصدرًا من مصادر التشريع.
ثانيًا: نصوص السنة
وردت في السنة نصوص كثيرة تدل على عصمة الأمة عن الخطأ والضلالة ، من ذلك
1 - قوله - صلى الله عليه وسلم : ( لن تجمع أمتي على الضلالة )[218]
2 – وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن )[219].
3 – وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم خلاف من خالفهم، ومن خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإِسلام من عنقه، ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية، عليكم بالسواد الأعظم ).
فهذه النصوص من السنة تدل على عصمة الأمة من الخطأ، وأن ما اتفقوا عليه يعتبر حجة شرعية يجب على المسلمين الأخذ به، وأن الإجماع مصدر من مصادر التشريع الإسلامي .
ثالثًا: المعقول:
وهو أن أهل العلم من مجتهدي الأمة كثيرون، فإذا اتفقوا على حكم شرعي، فيستحيل في العادة أن يتفقوا على حكم قاطع جازم لو لم يستندوا إلى دليل قوي قاطع، فاتفاق جميع المجتهدين مع اختلاف أنظارهم وبيئاتهم دليل على أن وحدة الحق والصواب هي التي جمعتهم على الحكم [220].
أركان الإجماع :
ركنا الإجماع هما الاتفاق على الحكم والمجمعون.
الركن الأول: المجمعون: وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال أبوحامد الغزالي: " وَظَاهِرُ هَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُسْلِمٍ "[221] ومن البديهي أن يتناول أهل الاجتهاد وهم كل مجتهد مقبول الفتوى، ولايتناول الصبيان والمجانين، لكن هل يدخل العوام في الاجماع؟
الركن الثاني: الاتفاق : من جميع المجتهدين مع اختلاف أجناسهم وطوائفهم وبلادهم،
وقد يكون صريحًا بالقول أو بالفعل، وهو الإجماع الصريح الحقيقي المتفق عليه، ، وقد يصدر من بعض المجتهدين حكمًا ويسكت الآخرون دون إقرار ولا إنكار، وهو ما يسميه علماء الأصول الإجماع السكوتي، وقد اختلف فيه الأصوليون، فمنهم من عده إجماعا كالحنفية والمالكية وأحمد ومنهم من رآه ليس إجماعا كالشافعية والظاهرية.
شروط الإجماع
اشترط العلماء شروطا في الإجماع ليكون صحيحا وحجة يعمل بها اتفقوا بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وأهمها:
1 - أن لا يعارض نصا من القرآن أو السنة وأن لا يعارض إجماعا سابقا؛ لأن النص سابق على الإجماع في المرتبة، وأن الإجماع السابق قطعي فلا يصح الإجماع على خلافه، ولأن الإجماع لا بد أن يستند على أصل شرعي من كتاب أو سنة[222].
2 - أن يكون الإجماع مستندًا إلى دليل شرعي[223].
3 - أن يوجد عدد من المجتهدين في عصر واحد، يؤمن تواطؤهم على الكذب.
4 - أن يكون الاتفاق من جميع المجتهدين.
5 - أن يكون الإجماع على أمر شرعي.
6 - أن ينقرض العصر ويموت جميع المجتهدين حتى لا يرجع أحدهم عن رأيه، وهذا الشرط مختلف فيه بين علماء الأصول، قال الغزالي : " وَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ وَمَوْتِ الْجَمِيعِ، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي اتِّفَاقِهِمْ لَا فِي مَوْتِهِمْ وَقَدْ حَصَلَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَلَا يَزِيدُهُ الْمَوْتُ تَأْكِيدًا"[224].
حكم الإجماع: اتفق علماء الأصول على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل بها، وأنه يفيد القطع في إثبات الأحكام، ولا يجوز مخالفته.
مرتبة الإجماع بين الأدلة:
اتفق علماء الأصول أن الإجماع يأتي في المرتبة الثالثة بعد القرآن والسنة. قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجده ففي سنة رسول الله، فإن لم يجد فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون. وإلا فليجتهد "[225]
الإجماع السكوتي: اختلف العلماء في حجية الإجماع السكوتي على قولين:
القول الأول: ذهب أكثر الحنفية والإمام مالك والإمام أحمد إلى اعتبارالإجماع السكوتي حجة قطعية، كالإجماع الصريح، لعموم الأدلة التي لم تفرق بين إجماع صريح وإجماع سكوتي،
القول الثاني: ذهب الكرخي من الحنفية، والآمدي من الشافعية إلى اعتبار الإجماع السكوتي حجة ظنية؛ وقالوا: لا ينسب لساكت قول، لأن السكوت يحتمل الموافقة، ويحتمل غيرها، فهو ظني الدلالة على الحكم، ولا يمنع الاجتهاد في الواقعة والإجماع عليها بخلافه[226].
1- إجماع أهل المدينة المنورة، اعتبر الإمام مالك إجماع أهل المدينة المنورة حجة تشريعية، لأنها معدن العلم، ومنزل الوحي، وبها أولاد الصحابة، فيستحيل اتفاقهم على غير الحق، وخروجه عنهم خلافًا للجمهور[227]، وهو ما يسمى في الفقه المالكي ب: عمل أهل المدينة.
ويرى الجمهور أن عمل أهل المدينة ليس بحجة مستدلين بأن العصمة المذكورة في الأحاديث للأمة كلها وليست خاصة بأهل المدينة، وأن كثير من علماء الصحابة قد خرجوا من المدينة كعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم[228] .
2 - إجماع الأكثرية لا يعتبر حجة مع مخالفة الأقل، وقال جماعة منهم الطبري، والجوهري التميمي، والرازي الحنفي، وابن حمدان، والغزالي والجويني والسرخسي: هو حجة، خلافًا للجمهور[229].
3 – إجماع الصحابة: ذهب الظاهرية إلى قصر الإجماع على الصحابة فقط، ولا إجماع بعدهم[230].
4 - إجماع العترة، ذهب الشيعة الإمامية والزيدية إلى أن إجماع العترة حجة لقوله تعالى: ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا )[231] والعترة هم علي وفاطمة وأبناؤهما رضي الله عنهم[232]، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني تارك فيكم ما ان تمسكتم به أن تضلوا كتاب الله وعترتي )[233]، وذهب أئمة أهل السنة إلى أن إجماع العترة ليس إجماعا.
5 - إجماع الخلفاء الراشدين،
إن عمل الخلفاء الراشدين ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم وافقهم عليه الصحابة فهو إجماع ملزم لمن بعدهم من الأجيال.
2 - وقسم لا مجال فيه للرأي والاجتهاد فحكمه حكم السنة المرفوعة .
3 - وقسم مجاله الاجتهاد والرأي وخالفهم فيه آخرون من الصحابة، لكنهم أذعنوا لاجتهاد الخلفاء لأنهم " اجتهدوا بصفتهم خلفاء أي " أولوا أمر" تجب طاعتهم، وهذا القسم اختلف الأصوليون في حجيته، فمنهم من رآه حجة على الأجيال التالية فيجب العمل به لأنه إجماع، ومنهم من يقدمه على غيرهم[234]، وكلام الإمام أحمد في إحدى الروايتين يدل على أن قولهم حجة، فهو لا يخرج عن قولهم إلى قول غيرهم[235].
ويرى الشافعي أن قول الخلفاء الراشدين مقدم على قول غيرهم من الصحابة، فإذا اختلف الصحابة على قولين، وكان الخلفاء الراشدون مع أحد الفريقين، يُصار إلى قول الخلفاء الأربعة[236]، ولكن نقل عن الشافعي أيضاً أن الفريقين من الصحابة سواء. ويحتاج الترجيح بينهما إلى مرجح[237].
واستدلوا بأنه قد أجمع الصحابة على جواز مخالفة بعضهم بعضاً، حتى لم ينكر أحد من الخلفاء الراشدين على من خالفه، فلم يكن إجماعهم حجة.
ولا شك أن ما أجمع عليه الصحابة أولى بالاعتبار من إجماع من بعدهم لأن مرتبتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم المداهنة تقتضي بأن يكون سكوتهم دليلاً على الموافقة، فإن لم يعتبر إجماعا فالظاهر أنه حجة.
القياس :
القياس هو الدليل الرابع من الأدلة الشرعية التي اتفقت جماهير المسلمين على الأخذ بها، وقد اعتبره علماء الأصول مصدرًا رئيسيًّا من مصادر التشريع الإِسلامي، وللقياس أهمية كبيرة في الاجتهاد؛ حيث أن النصوص الشرعية محدودة والوقائع غير متناهية، ولا يمكن أن تحيط النصوص بالوقائع، مما يستدعي ضرورة ولزوم القياس في التشريع، وهو ما يجعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان .
تعريف القياس:
القياس لغة: التقدير، مثل قست الثوب بالذراع أي: قدرته، وقستِ القُذَّة بالقُذَّة أي: سويت بينهما في المقدار، والقياس من قاس يقيس وقاس يقوس ويتعدى بالباء وبعلى، فيقال: قاسه على الشيء، وقاسه بالشيء [238]، ويكثر في الأصول تعديه بعلى.
القياس اصطلاحا: " مساواة فرع لأصل في علة حكمه "[239]
شرح التعريف:
مساواة: يشمل كل مساواة، مثل مساواة فرع لأصل، أو فرع لفرع.
فرع: وهو المحل الذي لم ينص على حكمه.
أصل: وهو المحل الذي ورد فيه نص، أو أجمع المجتهدون على حكم فيه، ويخرج مساواة الفرع لفرع آخر.
علة: وهي الوصف الجامع المشترك بين الأصل والفرع والذي يتعلق الحكم به.
حكمه: وهو حكم الأصل الشرعي المتعلق بفعل المكلف بطلب الفعل أو طلب الترك أو التخيير فيه.
فالفرع إذا ساوى الأصل في العلة أمكننا نقل حكم الأصل الثابت إلى الفرع،
قد تكون العلة في الفرع أقوى منها في الأصل، وهو ما يعرف بالقياس بالأولى مثل قياس ضرب الوالدين على التأفف.
وقد تكون العلة في الفرع مساوية لها في الأصل، وهو القياس المساوي كقياس إحراق مال اليتيم على أكله.
وقد تكون العلة في الفرع أضعف منها في الأصل وهو القياس الأدون ، كقياس الموز على البر بجامع الطعمية .
أركان القياس:
أولا: الأصل وهو محل الحكم المُشَبَّه به، ويشترط فيه أن يكون شرعيًّا وغير منسوخ، وألا يكون فرعًا من أصل آخر، أي ألا يكون ثابتا بالقياس.
ثانيا: الفرع وهو الواقعة أو الحادثة التي نريد معرفة حكمها، ويشترط في الفرع أن يساوي الأصل في العلة، وأن يساوي حكمه حكم الأصل، وألا يكون حكمه متقدمًا على حكم الأصل.
ثالثا: حكم الأصل وهو الحكم الشرعي، ويشترط فيه :
1- أن يكون ثابتًا بنص أو بإجماع، وألا يكون ثابتًا بالقياس.
2 - وأن لا يكون دليله شاملًا لحكم الفرع، لأانه إذا كان كذلك لم يكن محتاجا للبحث عن حكمه.
3 - أن يكون الحكم معقول المعنى لمعرفة علته،
4 - وأن لا يكون الحكم معدولًا به عن سنن القياس، وهو ما لا يعقل معناه كأعداد الركعات ومقادير الزكاة والكفارات، وما استثني من قاعدة مقررة، كشهادة خزيمة بن ثابت، فإنه حكم خاص به.
رابعا: العلة وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع، ويشترط فيها:
1 - أن تكون وصفًا ظاهرًا فالعلة هي المعرف للحكم فيجب أن تكون ظاهرة تُدرك بالحواس، فلا يصح التعليل بأمر خفي لأن الوصف غير الظاهر يخفى تعلق الحكم به، فمثلا جعل الله الرضا وصفا لصحة البيع، غير أن الرضا أمرٌ قلبيٌ يخفى ولا يمكن العلم به والاطلاع عليه فجُعل الكلام أي الصيغة هي المعرف للحكم لأنها المعبر عن الإرادة.
2- أن يكون وصفا منضبطًا ومعنى الانضباط هو أن تكون لهذا حقيقة معينة محددة يمكن التحقق من وجودها في الفرع بحدِّها، أو بتفاوت يسير، فلا يمكن التعليل بما لا ينضبط[240]، ويتغير باختلاف الأشخاص والحالات، فمثلا لا نقول علة القصر في السفر هي المشقة؛ لأن المشقة تختلف من شخص لآخر ومن سفر لآخر، وتختلف باختلاف وسيلة السفر، فالعلة إذن هي السفر ودفع المشقة هي الحكمة[241].
3- أن يكون الوصف مطردا أي إذا وجدت العلة وجد الحكم، بحيث يدور الحكم معها، ودون أن تنتقض وهو أن توجد الحكمة ولا يوجد الحكم ،مثاله : أن نقول أن العلة في الربا هي الوزن، والحديد لا يدخل فيه الربا رغم أنه موزون فنقول أن علة الوزن غير صحيحة، أو نقول أن العلة في القصر هي المشقة ثم نعلم أن عمال المناجم مثلا لا يجوز لهم قصر الصلاة فنقول أن التعليل بالمشقة في السفر غير صحيح .
4 - أن لا يعارضها ماهو أقوى منها من العلل فتكون العلة القوية أولى بالحكم[242]، فالأقوى أحق بالحكم .
5 – ألا يعارضها نص أو إجماع لأن النص أو الإجماع أولى بالحكم، ولأن القياس لا يستعمل إلا عند عدم وجود النص أو الإجماع.
مثال مخالفة النص: أن المرأة لها أن تنكح نفسها بغير إذن وليها؛ لأنها تملك أمر نفسها قياسًا على أن لها التصرف في أموالها بالبيع والهبة وغيرها بغير إذن وليها، فهذا وصف غير صحيح لمخالفة النص الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أيما امرأةً نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل، ثلاث مرات )[243].
خامِسًا: ألَّا تَكونَ مِن الأوصافِ التي ألغى الشَّارِعُ اعتِبارَها:
يُشتَرَطُ في العِلَّةِ ألَّا تَكونَ مِن
الأوصافِ التي لم يجعلها الشَّارِعُ وصفًا صالحًا لتَعليقِ الحُكمِ عليه، كأن يعتبر
الشَّارِعُ وَصفا معينا، ويَنوطَه به، ثُمَّ تَقتَرِنَ بالحكم أوصافٌ أخرى لا تؤثر
في الحكم، فيَجِبُ حَذفُها وعدم اعتبارها حتَّى يَتَّسِعَ الحُكمُ.
ومِن أمثِلةِ الوصفِ المَلغيِّ: كونُ الذي أفطَرَ في رَمَضانَ بوِقاعِ
أهلِه وأوجَبَ عليه الشَّارِعُ العِتقَ أعرابيًّا، فنعتبر الحكم يتعلق بكُلِّ
مُكَلَّفٍ أفطَرَ في رَمَضانَ بجِماعٍ، ونُلغي وَصفَ كَونِه أعرابيًّا ؛ إذ مِنْ
عَادةِ الشَّرعِ ألَّا يلتفتَ إلى مِثلِ هذهِ الأوصَافِ .
حجية القياس:
اعتبر علماء الأصول القياس حجة شرعية ومصدرا من مصادر التشريع واستدلوا على ذلك بما يلي:
أولًا: نصوص الكتاب الكريم
قال الله تعالى: ( فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ )[244]
فالاعتبار المقصود في الآية هو القياس، والآية أمرت بالاعتبار، قال الشوكاني: " الاعتبار مشتق من العبور..... والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فكان داخلًا تحت الأمر "[245] والأمر يفيد الوجوب، فيكون القياس واجبًا على المجتهد، وإذا كان القياس واجبًا على المجتهد فيجب عليه أن يلتزم بالحكم الذي وصل إليه اجتهاده، وأنه هو حكم الله تعالى في اعتقاده،
ثانيًا: السنة:
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث
معاذا إلى اليمن قال له: ( كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم
تجد في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله، قال: فإن لم
تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو)[246]
والاجتهاد هو القياس، وفي رواية
قال أقيس الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملت به، فقال - صلى الله عليه وسلم
-: أصبت)
وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – استعمل القياس في أمور كثيرة ، ولم يكن أمر القياس خاصا به صلى الله عليه وسلم، بل أراد أن يعلم الأمة ذلك ويرشدها إلى طريق الاجتهاد في معرفة الأحكام التي لم يرد فيها نص بقياسها على الأحكام التي وردت فيها النصوص، وهذه السنة الفعلية التي تعتبر حجة للمجتهدين لأن يأتسوا بها، ويقتدوا بصاحبها صلى الله عليه وسلم، ومن الأمثلة على ذلك:
1 - أن عمر سأل عن القُبلة هل تفطر الصائم؟ فقال: ( أرأيتَ إن تمضمضت، أكنت تفطر؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: فمَه؟ )، أي: فما الفرق؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم قاس القُبلة على المضمضة في عدم الإفطار، والعلة المشتركة بينهما أن كلًّا منهما مقدمة للإفطار.
2 - أن امرأة من جهينة سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نذر أمها بالحج، وماتت قبل الوفاء، وقالت: أفأحج عنها؟ قال - صلى الله عليه وسلم : نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أفكنت قاضِيَتِه؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء )[247].
3 - ما رواه أبو هريرة أن رجلًا من فزارة أتى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم فقال إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، فقال النبي
- صلى الله عليه وسلم
-: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ " قال: حُمر، قال: "فهل فيها من أَوْرق؟ قال: إن فيها
لوُرْقًا، قال: "فأنّى أتاها ذلك؟ قال:عسى أن
يكون نزعه عرق قال:
وهذا عسى أن يكون نزعه عرق )[248]
والأورَق : الأسمر من الإبل
ثالثًا: الإجماع
ولقد ثبت عن الصحابة أنهم اجتهدوا رأيهم، وقاسوا الأمور على أمثالها، وشاع بينهم ذلك ولم ينكر عليهم أحد، فكان إجماعًا منهم على حجية القياس[249].
1 - إن أبا بكر قاس في الكلالة الوالد على الولد في قوله تعالى: ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ )[250] فقال أبو بكر لما سئل عن الكلالة، أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، الكلالة ما عدا الوالد والولد[251].
2 - قال عمر في رسالته المشهورة لأبي موسى الأشعري: " اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور برأيك "[252]
رابعًا: المعقول: إن الحوادث لا تنتهي، والنصوص محصورة، فلا بدَّ من القياس.
يقول الزركشي : " فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَحْصُورَةٌ مَقْصُورَةٌ، وَمَوَاضِعُ الْإِجْمَاعِ مَعْدُودَةٌ مَأْثُورَةٌ، فَمَا يُنْقَلُ مِنْهَا تَوَاتُرًا فَهُوَ الْمُسْتَنِدُ إلَى الْقَطْعِ، وَهُوَ مُعْوِزٌ قَلِيلٌ، وَمَا يَنْقُلُهُ الْآحَادُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَعْصَارِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَهِيَ عَلَى الْجُمْلَةِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْوَقَائِعَ الَّتِي يَتَوَقَّعُ وُقُوعَهَا لَا نِهَايَةٌ لَهَا. وَالرَّأْيُ الْمَبْتُوتُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا تَخْلُو وَاقِعَةٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَلَقًّى مِنْ قَاعِدَةِ الشَّرْعِ وَالْأَصْلُ الَّذِي يَسْتَرْسِلُ عَلَى جَمِيعِ الْوَقَائِعِ الْقِيَاسُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَهُوَ إذًا أَحَقُّ الْأُصُولِ بِاعْتِنَاءِ الطَّالِبِ "[253]
حكم القياس:
القياس يفيد الظن وليس القطع؛ لأنه بذل الجهد من الفقيه، والحكم المستنبط بالقياس ليس يقينياً، لأن القياس يعتمد على اجتهاد الفقيه الذي قد يصيب أو يخطئ، ولذلك لا يبلغ القياس درجة القطع واليقين التي تُستمد من نصوص الشريعة القاطعة مثل القرآن والسنة القطعية أو الإجماع، لأن القياس دليل شرعيٌ في حالة عدم وجود النص[254].
مرتبة القياس :
القياس يأتي في المرتبة الرابعة بعد القرآن والسنة والإجماع، فهو أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحجة تُستخرج بها أحكام الفروع المسكوت عنها، يجب العمل به عند عدم النصوص والإجماع، قال الإِمام الشافعي رحمه الله: " يُحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليهما الذي لا اختلاف فيها، ... ويُحكم بالسنة ..... ونحكم بالإجماع ثم بالقياس، وهذا أضعف من هذا، ولكنها منزلة ضرورة[255]
[1] سورة هود آية 91 .
[2] سورة طه آية 27 .
[3] سورة الإسراء آية 44 .
[4] القاضي عبد الله بن عمرالبيضاوي ، منهاج الأصول إلى علم الأصول ، ص 3 ..
[5] النساء آية 11 .
[6] المائدة آية 3
[7] البقرة آية 216 .
[8] متفق عليه .
[9] عبد الوهاب خلاف ، علم أصول الفقه ، دار الفكر العربي ، د ط ، د ت ، ص 14 .
[10] - المائدة 3 .
[11] - الأنعام آية 145 .
[12] - صحيح رواه أبوداود والترمذي
[13] - البخاري ومسلم
[14] عبد الكريم النملة ، كتاب الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقاتها على المذهب الراجح، مكتبة الرشيد، الرياض ، ط 1 ، 2000 ، ص19
[15] عبد الكريم النملة ، مرجع سابق ، ص 19 .
[16] عبد الكريم النملة، ص 19 .
[17] الحج 36
[18] عبد الكريم زيدان ، الوجيز في أصول الفقه ، مؤسسة الرسالة ، ص 29 .
[19] عبد الكريم النملة ، مرجع سابق ، ص 23 .
[20] عبد الكريم النملة ، ص 24 .
[21] عبد الوهاب خلاف ، أصول الفقه ، ص 109 .
[22] - لسان العرب ، ج 1 ، ص 754 .
[23] - الشاعر قريط بن أنيف التميمي، شاعر جاهلي ، الزركلي ، الأعلام حرف القاف .
[24] - البقرة:282
[25] - البقرة:183
[26] - النور:33
[27] - النسائي وابن ماجة .
[28] - رواه أحمد والبيهقي والطبراني .
[29] - رواه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي .
[30] - رواه مسلم والترمذي والحاكم .
[31] - رواه البخاري ومسلم .
[32] - محمد آية 33 .
[33] - رواه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم .
[34] - البقرة آية 196 .
[35] - الموافقات ، الشاطبي ، ج 1 ، ص 151 .
[36] - الموافقات ، الشاطبي ، ج 1 ، ص 132 ، 133 .
[37] - الفيومي أحمد ،المصباح المنير، ج 1،ص 180 ، أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، ج 1 ، ص 482 .
[38] جرير
[39] - النساء آية 23 .
[40] - البقرة آية 275 .
[41] - رواه مسلم وأبوداود وابن ماجة .
[42] - الأنعام آية 151 .
[43] - المائدة آية 90.
[44] - متفق عليه .
[45] - البقرة آية 230 .
[46] - النساء 19 .
[47] - رواه أحمد وابن حبان
[48] - النور آية 4 .
[49] - النساء 23 .
[50] - النور آية 19 .
[51] - أخرجه البخاري معلقا .ومسلم .
[52] - محمد مصطفى الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 354 .
[53] - المرجع نفسه ، ج 1 ، ص 355 .
[54] - النساء 23 .
[55] - صحيح الترمذي وأحمد وابن ماجه .
[56] - المصباح المنير ، ج 2 ، ص 829 .
[57] - وقيل جائز ( العدوي ،حاشية العدوي على شرح الخرشي على مختصر خليل ، دار الفكر ، بيروت ، ج 3 ، ص 30 .)
[58] - ابن القيم الجوزية ، إعلام الموقعين ، ج 2 ، ص 79 .
[59] - البخاري ومسلم .
[60] - أبوحاتم والبيهقي،
[61] - المائدة: 101 .
[62] - المائدة: 101 .
[63] - الجمعة: 9 .
[64] - وهبة الزحيلي، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي، ج ، ص
[65] - متفق عليه .
[66] - أبوداود والنسائي وابن ماجة .
[67] - متفق عليه .
[68] عبد الكريم زيدان ، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 370- 371 .
[69] - ابن فارس ، معجم مقاييس اللغة ، ج 1 ، ص 316 ، مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، ج 1 ، ص 17 .
[70] - الجويني أبو المعالي ، التلخيص في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 250 .
[71] - البقرة آية 203 .
[72] - البقرة: 299 .
[73] - البقرة: 235 .
[74][74] - المائدة 2 .
[75] - الجمعة 10 .
[76] - البقرة 187
[77] - البقرة آية 29 .
[78] - الجاثية آية 13 .
[79] - الدارقطني والبيهقي والحاكم .
[80] - البخاري ومسلم .
[81] - المصباح المنير ج 3 ، ص 913 ، القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 94 .
[82] - أبو حامد الغزالي ، المستصفى ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط 12 ، 1993 ، ص 74 .
[83] -
[84] مختار الصحاح ، ج 1، ص 154، القاموس المحيط ، ج 1، ص 81 .
[85] - الآمدي ، الإحكام في أصول الأحكام ، مكتبة النور، الرياض ، 1387 هـ ، ج 1 ، ص 127 .
[86] - محمد أديب الصالح ، مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط ، مكتبة العبيكان ، الرياض ، ط 1 ، 2002 ، ص 646 .
[87] - محمد مصطفى الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 392 .
[88] - المرجع نفسه ، ج 1 ، ص 393 .
[89] - الإسراء 78 .
[90] - البقرة 185 .
[91] - البخاري .
[92] - الفتوحي ابن النجار، شرح الكوكب المنير ، مكتبة العبيكان ، الرياض ، ط 2 ، 1997 ، ج 1، ص 450 .
[93] - محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق ، ج 1 ، ص 395 .
[94] - الشاطبي ، الموافقات ، ج 1 ، ص 160 – 163 .
[95] - المرجع نفسه ، ج 1 ، ص 163 .
[96] - الإسراء: 78 .
[97] -
[98] -الفيروزأبادي، القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 368 ، الفيومي ، المصباح المنير ، ج 1، ص 421 .
[99] - الآمدي ، ج 1 ، ص 121 ، عبد الوهاب خلاف ، ص 112.
[100] - الآمدي ، الإحكام ، ج 1 ، ص 178 ، محمد أديب صالح ، مصادر التشريع الإسلامي ، ص 650 .
[101] - محمد مصطفى الزحيلي ، مرجع سابق، ج 1 ، ص 405 .
[102] - متفق عليه .
[103] - تفصيل ذلك في كتب الفقه ، ينظر في هذا الموضوع :ابن عبد البر ، كتاب الاستذكار باب العفو في قتل العمد ج 25 ، ص 271، الموسوعة الفقهية الكويتية ج 12 ، ص 286 .
[104] - شرح الكوكب المنير ، ج 1 ، ص 454 .
[105] - محمد سعيد رمضان البوطي، محاضرات في الفقه المقارن، دار الفكر، دمشق ، ط 2 ، 1981 ، ص 80 .
[106] - محمد مصطفى الزحيلي، مرجع سابق ، ج 1 ، ص 410 .
[107] - المصباح المنير ، ج 2، ص 798 ، القاموس المحيط ، ج 3 ،ص 86 .، لسان العرب ، ج 14 ، ص 134 .
[108] -
[109] - القرافي ، الفروق وبهامشه أنوار البروق على أنواء الفروق ، ج 1 ، ص 111 ، محمد مصطفى الزحيلي ، ج 1 ، ص 416 .
[110] -
[111] -
[112] -
[113] -
[114] الأنعام آية 56 .
[115] عبد الكريم زيدان ، مرجع سابق ، ص 70 . الشوكاني، إرشاد الفحول ، ج 1، ص 70 .
[116] الأشعري أبو الحسن تحقيق عبد الله شاكر محمد الجنيدي ، رسالة إلى أهل الثغر ، الجامعة الإسلامية ، المدينة المنورة، ص 137 .
[117] وهو قول الماتردية .
[118] - رواه مسلم والترمذي وأحمد .
[119] - الشاطبي ، الموافقات ، ج 2، ص 213
[120] - نفسه، ج 2 ، ص
[121] - نفسه ، ج 2 ، ص
[122] - رواه أحمدوالبيهقي والطبراني
[123] - متفق عليه .
[124] - متفق عليه .
[125] - متفق عليه .
[126] - مسلم وأبو داود وأحمد .
[127] - أحمد والبزار .
[128] - البزار.
[129] - متفق عليه .
[130] - عبد الوهاف خلاف ، علم أصول الفقه ، ص 120 .
[131] - عبد الكريم زيدان ، الوجيز في أصول الفقه ، ص 465 .
[132] - محمد زكريا البرديسي، دار الثقافة ، القاهرة، د ط ، د ت، أصول الفقه ، ص 120 .
[133] - نفسه ، ص 467 .
[134] - محمد زكريا البرديسي، دار الثقافة ، القاهرة، د ط ، د ت، أصول الفقه ، ص 121 .
[135] - الشوكاني ت أبي حفص سامي بن العربي الأثري، إرشاد الفحول ، دار الفضيلة ، الرياض ، ط 1 ، 2000 ، ج 1 ، ص 84 .
[136] - عبد الكريم زيدان ، مرجع سابق ، ص 469 .
[137] - البقرة: 286،
[138] - الطلاق: 7،
[139] - البرديسي ، مرجع سابق ، ص 122 . الشوكاني، مرجع سابق ، ج 1 ، ص 85.
[140] - البقرة: 286 .
[141] - الشوكاني مرجع سابق ، ج 1 ، ص 86 .
[142] - المدثر: 38 .
[143] - الأنعام: 136
[144] - آل عمران: 110 .
[145] - مسلم وأحمد وابن ماجة.
[146] - متفق عليه .
[147] - المباركفوري ، تحفة الأحوذي.
[148] - ضعيف أخرجه عبد الرزاق والبيهقي .
[149] - الباجي ، المنتقى ، ج 2 ، ص 271 .
[150] - عبد الكريم زيدان ، مرجع سابق ، ص 471 . الشاطبي ، الموافقات ، ج 2 ، ص 79 – 81 .
[151] - آل عمران 120 .
[152] - الحديد 23 .
[153] - رواه البخاري والترمذي والحاكم وأحمد .
[154] - رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
[155] - الشاطبي ، الموافقات، ج 2 ، ص175 وما بعدها .
[156] - البينة آية 6 .
[157] - الرازي ، مختار الصحاح ، المكتبة العصرية ، صيدا ، ط 5 ، 1999، ج 1 ، ص 106 .
[158] - عبد الوهاب خلاف ، مرجع سابق ، ص 24 .
[159] - البقرة آية 183 .
[160] - المجادلة آية 21 .
[161] - الفيروزأبادي ، القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 121 .
[162] - الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ج 1، ص 85 . الغزالي أبوحامد ، المستصفى ، ص 81 . الزحيلي ، الوجيز في أصول الفقه ،ج 1 ، ص 140 .
[163] - رواه الحاكم والترمذي وقال حديث حسن صحيح .
[164] - الزحيلي ، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 146 .
[165] - رواه أبوداود والبيهقي والحاكم .
[166] - رواه الدارقطني والحاكم .
[167] - الطبراني والبيهقي .
[168] - ينظر كتاب الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب. لابن عبد البر أبوعمرو يوسف ، تحقيق: عبد اللطيف بن محمد الجيلاني المغربي.، دار أضواء السلف .
[169] - مسلم وأبوداود والنسائي .
[170] - ابن عبدالبر ، الإنصاف ، ص 161 .
[171] - الزحيلي ، الوجيز ، ج 1 ، ص 150 .
[172] - النحل آية 89 .
[173] - الفيروز أبادي ، القاموس المحيط ، مؤسسة الرسالة ، بيروت، ص 516.
[174] - فصلت ، آية 53 .
[175] - هود آية 49 .
[176] - الروم آية 1 – 3
[177] - الفتح آية 27 .
[178] - فصلت آية 26 .
[179] - ابن هشام ، السيرة النبوية، ج 1 ، ص 270 .
[180] - الزحيلي ، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 162 .
[181] - آل عمران آية 159 .
[182] - الشورى 38 .
[183] - المائدة آية 3 .
[184] - النحل آية 89 .
[185] - الأنعام 38 .
[186] - الحجر آية 09 .
[187] - البقرة آية 228 .
[188] - المائدة آية 38 .
[189] - الزحيلي ، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 171 .
[190] - الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص 33 .
[191] - النحل آية 44 .
[192] - آل عمران آية 31 .
[193] - النور آية 56 .
[194] - النساء آية 59
[195] - النساء آية 59 .
[196] - الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص 46 ، الآمدي ، الإحكام ، ج 2 ، ص 14 .
[197] - الغزالي أبوحامد ، المستصفى ، ص 105 -106 .
[198] - الزحيلي ، الوجيز ، ج 1، ص 207 .
[199] - نفسه ، ج 1 ، ص 208 .
[200] - الغزالي ، المستصفى ، ص 116 .
[201] - التوبة آية 122 .
[202] - الحجرات آية 6 .
[203] - أبو داود وابن ماجة و الترمذي .
[204] - المستصفى ، ص 155 .
[205] - ابن القيم ، إعلام الموقعين ، ج 1 ، 31 .
[206] - رواه مسلم والنسائي .
[207] يونس آية رقم 71 .
[208] - النسائي وأبوداود والترمذي .
[209] - الفيومي ، المصباح المنير ، ج 1 ، ص 108 .
[210] - ابن فارس أحمد أبو الحسين ، معجم مقاييس اللغة ، دار الجيل ، بيروت ، ط 2 ، 1976 ، ج 1 ، ص 480 .
[211] - تيسير التحرير، دار الكتب العلمية ، بيروت ، د ط ، 1983 . ج 3 ، ص 224 .
[212] - إرشاد الفحول، ص 348 .
[213] - الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص 348 ، الزحيلي ، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 229 .
[214] - النساء آية 115 .
[215] - الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص 357 .
[216] - البقرة آية رقم 143 .
[218] - أخرجه الترمذي، وابن ماجة، والحاكم ، وأبو نعيم بألفاظ متقاربة .
[219] - أحمد والطبراني.
[220] - الزحيلي ، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 233 .
[221] - المستصفى ، ص 143 .
[222] - الشافعي محمد بن إدريس ،الرسالة ،مطبعة البابي الحلبي ، ط 1 ، 1938 ، ص 471 .
[223] - الشافعي محمد بن إدريس، ص 471 . الشوكاني ، إرشاد الفحول 377 .
[224] - المستصفى ، ص 152 .
[225] - موقوف صحيح ، رواه النسائي والدارمي والطبراني.
[226] - الزحيلي، الوجيز ، ج 1 ، ص 235 .
[227] - ابن قدامة ، روضة الناضر وجنة المناظر ، مؤسسة الريان، بيروت ، ط 2 ، 2002 ، ج 1 ، ص 411 .
[228] - ابن قدامة ، المرجع نفسه ، ص 413 .
[229] - نفسه ، ج 1 ، ص 236 .
[230] - ابن حزم أبو محمد علي، الإحكام في أصول الأحكام ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت ، د ط ، د ت، ج 4 ، ص 147 .
[231] - الأجزاب آية 33 .
[232] - السبكي ، الإبهاج في شرح المنهاج ، ج 2 ، ص 365 .
[233] -جديث ورد بألفاظ مختلفة ، رواه الترمذي وقال حسن غريب ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي
[234] - أكرم ضياء العمري ، عصر الخلافة الراشدة ، ص 93 .
[235] - ابن قدامة موفق الدين عبد الله ، روضة الناظر وجنة المناظر ، مؤسسة الريان، بيروت ، ط 2 ، 2002 ، ج 1 ، ص 414 .
[236] - أكرم العمري ، عصر الخلافة الراشدة ، ص 93 .
[237] - الزركشي أبو عبد الله بدر الدين ، البحر المحيط ، دار الكتبي ، الجيزة، ط 1 ، 1994 ، ج 6 ، ص 452 .
[238] - الفيومي ، المصباح المنير، ج 2 ، ص 521 . الفيروزأبادي ، القاموس المحيط ، ص 567 .
[239] - أبو الثناء محمود بن عبد الرحمان الأصبهاني تحقيق محمد مظهر بقا ، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب، دار المدني ، الرياض ، ط 1 ، 1986 ، ج 3، ص 6 . الزركشي ، البحر المحيط ، ج 7 ، ص 8 .
[240] - الزركشي ، البحر المحيط، ج 7، ص 168 .
[241] - فضل بن عبد الله مراد ، كتاب التحقيقات على شرح الجلال للورقات ، دار الظاهرية ، الكويت، ط 1 ، 2019 ، ص 317 .
[242] - الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص 873.
[243] - رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد.
[244] - الحشر آية 2 .
[245] - إرشاد الفحول ، ص 848 -849 .
[246] - رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وصححه ابن عبد البر وابن القيم وقال الشوكاني: وقد قيل: إنه مما تلقته الأمة بالقبول.
[247] - وقد تكررت هذه القصة مع امرأة من خثعم بالحج عن والدها، وعن رجل من خثعم بالحج عن والده، وهي أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد والبيهقي والدراقطني.
[248] - أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي
[249] - الغزالي ، المستصفى ، ص 286 .
[250] - النساء آية 176 .
[251] - رواه الدارمي
[252] - ابن القيم الجوزية ، إعلام الموقعين ، ج 1، ص 50
[253] - البحر المحيط ، ج 7، ص 5 .
[254] - الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه، ج 1 ، ص 244 .
[255] - الشافعي، الرسالة ، ص
محاضرات في علم أصول الفقه
إعداد الأستاذ الدكتور: هزرشي عبد الرحمان
موجهة لطلبة السنة الأولى علوم إسلامية
الموسم الجامعي 2025 / 2026
مقدمة :
التعريف بعلم أصول الفقه :
أصول الفقه اسم مركب من مضاف ومضاف إليه كلمة " أصول " وكلمة " الفقه " وتعريفه يقتضي معرفة جزأيه ، فنبدأ بتعريف المضاف إليه المعرف وهو الفقه، ثم ننتقل لتعريف المضاف أصول .
تعريف الفقه:
الفقه لغة : هو الفقهم مطلقا ، قال تعالى : " قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول " [1]، أي لا نفهم كثيرا مما تقوله بشأن الإيمان بالله واليوم الآخر وأمور الدين، وقال تعالى على لسان موسى عليه السلام " واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي "[2] أي يفهموا قولي .وقال تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " [3] .
الفقه اصطلاحا : هو : " العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية " [4].
شرح التعريف :
العلم : يقصد بالعلم الإدراك للأشياء، وقد يكون قطعيا وقد يكون ظنيا، والعلم هو مجموعة المعارف المندرجة تحت هدف كلي ، فنقول علم الطب ، علم الفلك ، علم النحو ... وهكذا.
الأحكام : جمع حكم وهو إثبات أمر لآخر إيحابا أو سلبا كقولنا : القاعة كبيرة فنحكم بكبر القاعة ، الطلاب حاضرون ، أو تقول القاعة غير ملائمة ، الطلاب غير حاضرين .
والمقصود بالأحكام هنا ما يثبت للمكلفين من وجوب وندب وحرمة ..... مثل قولنا : الصلاة واجبة ، الطهارة شرط صحة للصلاة ، القصر في الصلاة رخصة ، طلب العلم فريضة .
الشرعية : أي الأحكام المنسوبة بالشريع والمتعلقة بالشريعة الإسلامية، وبهذا القيد " الشرعية " أخرد الأحكام المتعلقة بالعلوم الأخرى فعندما تقول : " العبارة صحيحة " فهذا حكم لغوي ، وعندما تقول هذا الدواء نافع للمعدة فهذا حكم طبي ...
العملية : أي الأحكام العملية المتعلقة بأعمال الجوارح من عبادات ومعاملات كالصلاة والزكاة والزواج والطلاق والبيع والإيجار وغيرها من الأحكام العملية، وقد أخرج بهذا القيد أعمال القلوب كالإيمان بالله واليوم الآخر ....
المكتسب : أي العلم الذي يحصل بالاجتهاد وبذل الوسع في فهم الأدلة، وعلى هذا فعلم المقلد لا يعتبر فقها وفقا لهذا التعريف.
من أدلتها التفصيلية: فالأدلة هي وسيلة اكتساب العلم والمقصود بالأدلة التفصيلية أي الجزئية الخاصة بكل مسألة من مسائل الفقه وهو ما يفرقها عن الأدلة المجملة التي هي أدلة أصول الفقه، ومن الأمثلة على ذلك :
مثال1 : قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ
الأنثيين )[5]
فهذا الدليل التفصيلي من القرآن أفاد حكما هو أن نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى
بالنسبة لأبناء الميت.
مثال 2 : ( حرمت عليكم الميتة ) [6]فهذا الدليل التفصيلي من القرآن أفاد حكما فقهيا جزئيا هو تحريم أكل لحم الميتة.
مثال 3 : ( كتب عليكم القتال وهوكره لكم )[7] هذا دليل تفصيلي تضمن حكما عمليا وهووجوب الجهاد في سبيل الله.
مثال 4 : قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إندمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام )[8] ، فهذا الحديث هو دليل تفصيلي تضمن حكما شرعيا عمليا وهو تحريم دماءالمسلمين وأموالهم وأعراضهم.
وكذا قياس بعض الأحكام التي لم يرد فيها دليل على أحكام أخرى ورد بها الدليل هو دليل تفصيلي ، أو حكم ثبت بالمصلحة المرسلة ....
تعريف أصول :
التعريف اللغوي : أصول جمع كلمة أصل وتُجمع على أصُلٌ وأصول، والأصل ما يبنى عليه غيره ، يقال : أصل الشجرة أي جذعها وأصل الجدار أي أساسه،
التعريف الاصطلاحي : يطلق الأصل على عدة معان منها:
القاعدة المستمرة : ومنه قول علماء أصول الفقه " الأصل أن الخاص مقدم على العام عند التعارض " أي القاعدة في ذلك، ويقول علماء النحو: " الأصل في المبتدإ التقديم وفي الخبر التأخير " أي القاعدة المستمرة في كلام العرب، ويقول علماء البلاغة العربية : " الأصل في الكلامالحقيقة لا المجاز ".
تعريف أصول الفقه باعتباره علما : هو مجموعة القواعد التي يُوصِل البحثُ فيها إلى استنباط الأحكام الفقهية العملية من أدلتها التفصيلية[9] .
شرح التعريف :
القواعد : جمع قاعدة وهي القاعدة الكلية التي التي تعرف منها الجزئيات المندرجة تحت موضوعاتها،
التي يوصل البحث فيها : أي أن هذه القواعد تكون وسيلة للمجتهد لمعرفة الأحكام وأخذها من الأدلة، وبالتالي فقد أخرج القواعد التي لا تكون وسيلة لاسنباط الأحكام الفقهية العملية ، كقواعد النحو والهندسة وقواعد علم الاجتماع .
موضوع علم أصول الفقه: فانطلاقا من تعريف علم أصول الفقه نعرف أن موضوع علم أصول الفقه هو دراسة القواعد والمبادئ التي يستخدمها الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، فموضوع أصول الفقه هو الدليل الكلي من حيث إثباته للأحكام، فموضوعات علم أصول الفقه هي :
الحكم الشرعي بفرعيه الحكم التكليفي : الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، والحكم الوضعي : الشرط والمانع والرخصة والعزيمة.
الأدلة الشرعية: القرآن والسنة والقياس والإجماع.
دلالة الألفاظ : وكيفية الاستفادة ، كالأمر والنهي، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمفهوم والمنطوق .
مثال المطلق والمقيد : قال تعالى : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم )[10].
وقال تعالى: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم جنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به )[11].
فكلمة الدم ذكرت في الاية الأولى مطلقة وفي الآية الثانية قيدت بكون الدم مسفوحا.
المفهوم: إن رسول الله ص سئل عن سؤرالقطة قال: ( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات )[12] لماذا فرق رسول الله ص بين لعاب الكلب ولعاب القطة فقال طهورإناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات إحداهن بالتراب أو قال أولاهن بالتراب)[13].
الاجتهاد وصفات المجتهد وشروطه .
أهمية دراسة علم أصول الفقه: هي القواعد التي تمكن الفقيه من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية،ومن هنا تكمن أهمية دزاسة أصول الفقه فقواعد أصول الفقه لها أهمية كبيرة نظرا للهدف منها وهو استنباط الأحكام الشرعية وفضلا عن ذلك فله فوائد متعددة نذكر منها:
01 - الاستنباط الدقيق للأحكام وذلك بمعرفة طرق الاستنباط وكيفية تطبيقها.
02 - تيسير الاجتهاد في القضايا المستجدة التي تحدث ولم يرد فيها نص شرعي.
03 - حماية الشريعة الإسلامية من الانحراف وذلك بوضع القواعد والضوابط لفهم النصوص الشرعية ومنع تفسير النصوص بالهوى أو الرأي المجرد عن الاجتهاد الصحيح والفكر السليم.
04 – فهم تراث الأئمة والمذاهب فعلم أصول الفقه يمكن الدارس من فهمواستيعاب أدلة الفقهاء وآراء المذاهب وطرق اجتهادهم وقواعد الترجيح بين الأقوال والآراء.
05 – ضمان منهجية صحيحة لفهم الشريعة الإسلامية بعيدا عن الأهواء والميولات.
نشأة علم أصول الفقه وتطوره:
1 - مرحلة ما قبل التدوين : نشأ علم أصول الفقه مسايرا لحركة الاجتهاد الفقهي، فقد كانت قواعد أصول الفقه معروفة لدى المجتهدين يستخدمونها في اجتهادهم وفتاواهم ولا يعبرون عنها إلا قليلا، فكانوا يعرفون القواعد المتعلقة بالقياس والناسخ والمنسوخ ويعرفون المنطوق والمفهوم دون أن تكون مدونة في الكتب .
2 - مرحلة التدوين : بداية من الإمام الشافعي في أواخر القرن الثاني الهجري حوالي 192 هـ ، ثم توالت الكتابات في علم أصول الفقه وظهرت مدرستان في التأليف في أصول الفقه هما : مدرسة الفقهاء ومدرسة المتكلمين .
أ - طريقة المتكلمين : اهتم أصحاب هذا المنهج بتحرير القواعد مجردة من المسائل الفقهية ووضع المقاييس مع الاستدلال العقلي ومن غير نظر إلى مذهب معين، سار عليها جمهور العلماء من المالكية والحنابلة والظاهرية والمعتزلة ومن سائر المذاهب وانتشرت في أغلب الأمصار.
ب - طريقة الفقهاء: تأخر ظهور هذه المدرسة بالمقارنة مع مدرسة المتكلمين، سارت هذه الطريقة باتجاه التأثر بالفروع الفقهية، واثبات سلامة الاجتهاد فيها، فهي تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نُقل من الفروع الفقهية عن آئمة كبار الحنفية، لإثبات القواعد التي لاحظها أولئك الأئمة عندما اجتهدوا في الفروع، فهي في واقعها أصول تأخر وجودها واستخراجها عن استنباط الفروع .
ج - مقارنة بين المدرستين : يلاحظ أن منهج المتكلمين منهج تجريدي يجعل القواعد الأصولية مقياسا للاستنباط ومعيارا له، بينما يمتاز منهج الفقهاء بأنه منهج عملي تطبيقي، ينطلق من المسائل الفقهية والاستدلال بها على القواعد الأصولية لتكون مقررة لها، فهذه الطريقة سارت باتجاه التأثر بالفروع، واثبات سلامة الاجتهاد فيها، فهي تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نُقل من الفروع عن الأئمة المجتهدين عندما فرعوا الفروع، ولهذا فأصول المتكلمين قوانين للاستنباط وحاكمة عليه وموجهة له أما أصول الفقهاء فإنها مقررة لما هو موجود من أحكام فقهية .
الحكم الشرعي وأقسامه
الحكم الشرعي : هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا.[14]
فالحكم عند الأصوليين هو نفس الخطاب الشرعي .
شرح التعريف :
خطاب الله : هو كلام الله جل وعلا، ويقصد به القرآن، وأيضاً تدخل معه السنة.
المتعلق بأفعال المكلفين أي ما يتعلق بالأفعال لا الاعتقادات مثل الإيمان أو صفات الله، أو عذاب القبر ونعيمه، فهذا لا يبحث فيه الأصوليون.
الاقتضاء: هو الإلزام بالفعل أو بالترك.
والإلزام بالفعل يعني: الوجوب، وينسحب معه الاستحباب، والمستحب لابد من أمر شرعي فيه يأمر الله به.
والإلزام بالترك هو التحريم، وينسحب معه المكروه.
والوضع هو: جعل شيء سبباً لشيء آخر أو شرطا أو مانعا. كجعل غروب الشمس سببا لوجوب صلاة المغرب ، ورؤية هلال شهر رمضان لوجوب الصيام .
وأن يحعل القتل العمد سببا لمنع الميراث .
أقسام الحكم الشرعي
الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: حكم تكليفي، وحكم وضعي.
فالحكم التكليفي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير[15] فقط، فيدخل فيه الواجب والمستحب والحرام والمكروه والمندوب.
الحكم الوضعي: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالوضع فقط، فيدخل فيه السبب والشرط والمانع والصحة والبطلان[16].
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي :
الحكم التكليفي له أوقات وعلامات وأسباب، وأما الحكم الوضعي فليس له ذلك ، والحكم التكليفي يقصد منه الطلب أي التكليف، أما الحكم الوضعي فلا يتطلب ذلك، والحكم التكليفي أمر يستطيع المكلف فعله أو تركه، بينما الحكم الوضعي قد يكون في مقدور المكلف أو قد لا يكون.
مثال ذلك: الزكاة في مال الصبي : الصبي غير مكلف، فلا يؤمر بالصلاة ولا بالحج ولا بالجهاد، لأن هذه كلها من خطاب التكليف ، لكنه يؤمر بإخراج الزكاة من ماله، فلو أن هناك صبياً عنده مال بلغ النصاب وحال عليه الحول، فلا بد أن يزكى هذا المال؛ وهذا من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف ، فبلوغ النصاب شرط في وجوب الزكاة.
كذلك لو أن صبيا كان يلعب في الشارع فكسر زجاج سيارة أو أتلف شيئاً لبائع، فإن الولي يأخذ من مال هذا الطفل ليضمن هذا المتلف، فالإتلاف سبب للضمان وهذا من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف أيضاً.
أقسام الحكم التكليفي:
خطاب التكليف له خمسة أقسام: الواجب، المندوب، المباح، المحرم، المكروه.
الواجب
تعريف الواجب:
الواجب لغة: هو الساقط، قال الله تعالى: ( فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا )[17] ، أي: أن الإبل عندما تنحر وهي واقفة، فتسقط على الجنب، ثم لك أن تذبح بعد ذلك وتأكل وتعطي القانع والمعتر.
الواجب اصطلاحا: هو طلب الفعل على وجه اللزوم.[18]
أو هو: ما ذُم تاركه شرعاً مطلقاً[19]. مثل الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والوفاء بالعقود، ورد الامانات.
صيغ الواجب:
1 - فعل الأمر كقوله تعالى: ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ )
2 - الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيق ).
3 - اسم فعل الأمر كقوله تعالى : ( عَليكم أَنفُسَكم )
4 - المصدر النائب عن فعل الأمر، كقوله تعالى: ( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ).
5 - التصريح من الشارع بلفظ الأمر كقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ).
6 - التصريح بلفظ الإيجاب أو الفرض، أو الكتب كقوله تعالى : ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ )، وقوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ).
7 - كل أسلوب يفيد الوجوب في لغة العرب كقوله تعالى: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ).
8 - ترتيب الذم والعقاب على ترك الفعل، كقوله تعالى: ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ )
الواجب والفرض
يطلق الجمهور على الواجب لفظ الفرض ولا يفرقون بينهما ، بينما يفرق الحنفية بين الواجب والفرض،
ووجه الفرعندهم : أن " الفرض " اسم لما ثبت حُكمه بدليل مقطوع به، كالآية والحديث المتواتر اللَّذَين قد قُطع بدلالتهما على الحكم، والإجماع الصريح الذي نقل إلينا نقلاً متواتراً.
بينما " الواجب " فهو اسم لما ثبت حكمه بدليل ظني كخبر الواحد، والإجماع السكوتي، والقياس، وجميع دلالات الألفاظ الظنية[20].
أقسام الواجب : يقسم الواجب باعتبارات مختلفة نفصلها فيما يلي:
1. تقسيم الواجب من حيث الفاعل ( المطالب بالأداء ): يقسم الواجب باعتبار المكلف به إلى:
· الواجب العيني: ما طلب الشرع فعله من كل فرد مكلف بذاته . مثل: الصلوات الخمس، والحج، والوفاء بالعقود.
· الواجب الكفائي: ما طلب الشرع فعله من جماعة من المسلمين، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع، مثل صلاة الجنازة وتعلم العلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكروالقضاء والإفتاء، والقيام بالصناعات والحرف والمهن كالطب والتجارة، وسائر الخدمات التي يحتاجها المجتمع.
فهذه الواجبات طلب للشارع إيجادها في الأمة بغض النظر عمن يقوم بها، وليس مطلوبا أن يقوم بها كل فرد ؛ لأن المصلحة تتحقق بوجودها في بعض المكلفين ولا تتوقف على قيام كل مكلف بها.
إذا تعيّن فردٌ لأداء الواجب الكفائي كان واجبا عينيا عليه، فلو شهد الغريقَ شخصٌ واحدٌ يحسن السباحة تعين عليه إنقاذه ، ولو لم ير الحادثة إلا واحدٌ ودُعي للشهادة تعينت عليه، ولو لم يوجد في البلد إلا طبيبٌ واحدٌ تعين عليه إسعافُ المريض؛ فهؤلاء الذين تعينوا لأداء الواجب الكفائي، ينقلب الواجب بالنسبة إليهم واجبا عينا[21].
2. من حيث الفعل المطلوب: يقسم الواجب باعتبار الفعل المطلوب إلى:
· الواجب المعين: ما حدد الشرع فعله بعينه، فلا يصح غيره. مثال: الصلوات والصيام والحج، وثمن الشيء المشترى، وأجر المستأجر، بحيث لا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائه بعينه.
· الواجب المخير: ما خير الشرع المكلف فيه بين أفعال محصورة، فإذ اقام بواحد منها أجزأه. مثال: كفارة اليمين (إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة)، ويبقى الخيار فيه للمكلف فيقوم بأحد تلك الأفعال فإذا فعل واحدة منها أجزأه.
3. تقسيم الواجب من حيث المقدار: ينقسم الواجب من حيث مقدار الفعل المطلوب إلى قسمين:
· الواجب المحدد: ما قدره الشارع بحد معين، كالصلوات، والصيام، والزكاة، والديون المالية، وتبقى ذمة المكلف مشغولة بها حتى يؤديها بمقدارها المحدد .
· الواجب غير المحدد: ما لم يقدره الشارع بحد معين بل طلبه من غير تحديد المقدار، كالإنفاق في سبيل الله، وإطعام الجائع، وإغاثة الملهوف، والمقدارفي هذه الفروض غير محدد، بل يتحدد تبعا للحاجة والظروف والأحوال.
4. وينبني على هذا التقسيم: أن الواجب المحدد يجب ديناً في الذمة، وتجوز المطالبة به أمام القضاء، وأن الواجب غير المحدد لا يجب ديناً في الذمة ولا تجوز المطالبة به أمام القضاء، لأن الذمة لا تشغل إلا بمعين والمقاضاة لا تكون إلا بمعين.
ولهذا من رأى أن نفقة الزوجة الواجبة على زوجها، ونفقة القريب الواجبة على قريبه واجب غير محدد، لأنه لا يُعرف مقداره، قال: إن ذمة الزوج أو القريب غير مشغولة به قبل القضاء، وليس للزوجة أو القريب أن يطالب به إلا بعد القضاء لأن الحكم القضائي يحدده.
ومن رأى أنها من الواجب المحدد المقدر بحال الزوج أو بما يكفي للقريب، قال إنهما واجب محدد في الذمة فتصح المطالبة به بواسطة القضاء.
5. تقسيم الواجب من حيث وقت الأداء: ينقسم الواجب من حيث وقت الأداء إلى قسمين:
· الواجب المؤقت: ما حدد له الشارع وقتاً معيناً له بداية ونهاية، لا يمكن أداؤه في غير زمنه المحدد، كالصلوات فقد حدد لها الشارع وقتا معينا لا يصح أن تُؤدى قبله، ويأثم المكلف لإذا أخرها عن وقتها والصيام.
والواجب المؤقت إن كان وقته الذي حدده الشارع يسع الفعل ويسع غيره من جنسه سُمي هذا الوقت موسَّعاً ، مثاله : صلاة الظهر ، فالوقت المحدد لأدائها وقت موسع يسع أداء الظهر وأداء أي صلاة أخرى، وللمكلف أن يؤدي الظهر في أي جزء من ذلك الوقت.
وإن كان وقته الذي حدده الشارع يسع الفعل ولا يسع غيره من جنسه سمي هذا الوقت مضيَّقاً ، مثال ذلك صيام شهر رمضان فهو مضيق لا يسع إلا صوم رمضان ولا يمكن للمكلف أداء صيام آخر مع صيام شهر رمضان.
إن الواجب الموسع يجب على المكلف أن يعينه بالنية حين الآداء في وقته، لأنه إذا لم ينوه بالتعيين لا يجزئه ذلك ، فمثلا إذا صلى الشخص في وقت الظهر أربع ركعات فإن نوى بها تأدية صلاة الظهر كان ذلك أداء لها، وإذا لم ينو بها أداء صلاة الظهر لم تكن صلاته أداء لها، ولو نوى التطوع كانت صلاته تطوعا.
وأما الواجب المضيق فلا يجب على المكلف أن يعيّنه بالنية حين أدائه في وقته، لآن الوقت معيار له لا يسع غيره من جنسه فبمجرد النية ينصرف ما نواه إلى الواجب، فإذا نوى في شهر رمضان الصيام مطلقا ولم يعين بالنية الصيام المفروض انصرف صيامه إلى الصيام المفروض، ولو نوى التطوع لم يكن صومه تطوعا بل كان المفروض، لأن الشهر لا يسع صوما غيره
· الواجب المطلق : ما لم يحدد الشرع له وقتاً معيناً، كالكفارات والنذور،وتبرأ الذمة بتأديته دون النظر للوقت.
المندوب
الندب لغة : هو الدعاء إلى الأمر المهم، والمندوب: المدعو إليه، وندب القوم َ إلى الأمر دعاهم وحثهم[22] ومنه قول الشاعر:
لاَ يَسْأَلُونَ أَخَاهم حينَ يَندُبُهم للنَّائِبَاتِ على ما قَالَ بُرهَانا[23]
المندوب اصطلاحا: هوما طلب الشارع فعله من غيرإلزام، بحيث يمدح فاعله ويثاب، ولا يذم تاركه ولا يعاقب ، وقد يلحقه اللوم والعتاب على ترك يعض أنواع المندوب.
شرح التعريف :
ما طلب الشارع فعله:وذلك بخطاب الله الاقتضائي، أي الأمر فيخرج الحرام والمكروه لأنه نهي، ويخرج به المباح لأنه تخيير.
طلبا غير جازم : فيخرج به الواجبلأن الشارع طلب فعله طلبا جازما.
حكم المندوب : إن فاعل المندوب مطيع يستحق الثواب والأجر من الله، وتاركه ليس عاصيا فلا يستحق العقاب.
صيغ الندب :ويدل على كون الفعل مندوباً
1- صيغة الطلب الصريح، إذا اقترن بها ما يدل على ارادة الندب لا الإلزام، سواء كانت هذه القرينة نصاً أو غيره.
فقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ»[24]
لا يدل هذا الطلب على الحتم والإلزام، بقرينة ما ورد في سياق الآية وهو قوله
تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ)[25] فهذا النص يدل على أن طلب كتابة
الدين إنما يُراد به الندب لا اللزوم، فهو من قبيل الإرشاد للعباد لما يحفظون به
حقوقهم من الضياع، فإذا لم يأخذوا بهذا الإرشاد تحملوا هم نتيجة إهمالهم.
وقوله تعالى: ( فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً )[26] ،لايدل على وجوب المكاتبة، بقرينة القاعدة الشرعية: إن المالك حر في التصرف في ملكه، فيدل على أنالأمر قد صرف من الوجوب للاستحباب .
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) ، لا يدل على وجوب النكاح على كل مكلف، بقرينة ما عرف بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يلزم كل مكلف بالنكاح، ولو مع قدرته عليه.
2 - التعبير الصريح بلفظ الندب : أو السنة ومنه قوله ص في قيام رمضان ( سننت لكم قيامه )[27]
3 – عدم ترتيب العقوبة على لترك الفعل مع طلبه من الشارع، كقوله ص : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه )[28]فلم يرتب العقوبة على ترك الرخصة فدل على الاستحباب.
4 – عدم مواظبة الرسول ص على الفعل في أغلب الأحيان وتركه في بعض الحالات ليدل على أن الفعل غير معاقب على تركه كالسنن الراتبة بعد الصلوات وقبلها.
5 – الأساليب التي تدل على عدم الإلزام مثل قوله ص : ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل )[29]، وقوله : ( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده )[30]فهذه الأحاديث تدل على طلب الفعل ولكن ليس على سبيل الإلزام، لأن الطلب جاء مقتصرا على التحبيب في الفعل وبيان فضله والترغيب فيه.
أسماء المندوب: يطلق على المندوب ألفاظ: السنة، والناقلة، والمستحب، والتطوع، والإحسان، والفضيلة، وكلها ألفاظ متقاربة المعنى تشير الى معنى المندوب، وهو طلب الفعل من غير إلزام.
مراتب المندوب :والمندوب على مراتب:
السنة المؤكدة: وهو ما يثاب عليه فاعله ولا يعاقب تاركه، لكنه يستحق اللوم والعتاب، فالفعل مندوب على وجه التأكيد، وهي أعلى درجات المندوب، والقاعدة في معرفة السنة المؤكدة هو ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه إلا نادراً ليبين جواز الترك، كصلاة الفجر، والشفع والوتر، وصلاة العيدين، والمضمضة والاستنشاق في الوضوء، والأذان فهومن شعائر الإسلام المتعلقة بمصلحة دينية عامة، فلا يحوز التهاون به، ولهذا إذا تواطأ أهل قرية على تركه حُملوا عليه قسراً.
السُّنَّة غير المؤكدة : مايثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ولا يستحق العتاب على ترك الفعل، وهي التي لم يداوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم،وإنما كان يفعله في بعض الأحيان، ويسمىنافلة وتطوعا، كصلاة أربع ركعات قبل الظهر، وكصدقة التطوع .
الفضيلة : وهي ما يثاب عليه فاعله إن نوى بها متابعة النبي ص والاقتداء به، ولا شي على تاركها، وتسمى الأدب وتلي هذه المرتبة كالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في شؤونه الاعتيادية التي صدرت منه بصفته إنساناً، كطريقته ص في الأكل والشرب والنوم، فالاقتداء به عليه الصلاة والسلام في هذه الأمور مستحب ويدل على تعلق المقتدي به - عليه الصلاة والسلام -، ولكن تاركها لا يستحق لوماً ولا عتاباً لأنها ليست من أمور الدين، ولم تجر مجرى العبادات، ولكنها من العادات.
هل المندوب مأمور به: اتفق الفقهاء على أن المندوب مأمور به واختلفوا في طبيعة الأمر على قولين، فيرى الجمهورمن المالكية والشافعية والحنابلة والمحققين من الحنفية أن المندوب مأمور به حقيقة، بينما ذهب بعض الأصوليين إلى أن المندوب مأمور به مجازا وليس حقيقة.
استدل الفريق الأول بما يلي :
1 – أن المندوب مأمور به لأنه يسمى طاعة، والطاعة تكون بامتثال الأمر.
2 – قالوا : إن الأمر ينقسمإلى قسمين : أمر إيجاب وأمر ندب .
3 – المندوب مطلوب كالواجب، غير أن الواجب مطلوب مع ذم الترك للفعل، بينما المندوب مطلوب من الشارع مع عدم ذم التارك، وعليه فالمندوب مأمور به.
استدل الفريق الثاني :بما يلي:
1 – لو كان المندوب مأمورا به حقيقة لكان تركه يوجب العقاب لمخالفة الأمر ، مع أن ترك المندوب لا يوجب إثما بالاتفاق، فكام المندوب مأمور به مجازا .
الجواب : الندب اقتضاء لا تخيير فيه، لأن التخيير تسوية بين الفعل والترك، فإذا ترجحت جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير، أما المعصية فهي مخالفة أمر الإيجاب وقد أسقط الشارع الذم على ترك المندوب.
2 – استدلوا بالحديث : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )[31]، فالسواك مندوب ولم يأمر به رسول الله ص .
الجواب: أن الأمر المقصود في الحديث أمر الإيجاب لا أمر الندب.
والخلاف لفظي لا ينبني عليه عمل، ولا طائل من البحث فيه، فلا يترتب عليه اختلاف في الأحكام.
حكم الشروع في المندوب: اختلف العلماء في مسألة لزوم المندوب بالشروع فيه، على قولين: فمنهم من يرى أن المكلف إذا شرع في المندوب وجب عليه إكماله، وإن تركه وجب عليه قضاؤه، واستدل كل فريق بمجموعة من الأدلة وسنفصل في هذه الأدلة و الحجج.
الرأي الأول : يرى المالكية والحنفية أن المندوب يجب بالشروع فيه واستدلوا بما يلي:
1 – قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم )[32].
2- القياس: واستدلوا بقياس المندوب على النذر، فالشروع في المندوب كالنذر، لأن النذر التزام قولي والناذر قبل النذر مخير بين الفعل وعدمه، وبعد الكلام أصبح واجبا، والمندوب كذلك لأن المكلف كان قبل الشروع فيه مخير بين الفعل والترك،وبعد الشروع ينقلب إلى واجب لأن الفعل أقوى من القول.
الجواب : هذا قياس مع الفارق لأن الناذر ألزم نفسه بما نذره، والشروع في المندوب هو أداء لبعضه بنية التطوع وليس بنية الوجوب.
الرأي الثاني : ويرى الشافعية أن المندوب لا يجب بالشروع فيه ويبقى على استحبابه ، ولا يجب إتمامه ، إن لم يتمه الفاعل فلا إثم عليه، واستدلوا بما يلي:
1 – أن المندوب يجوز للمكلف تركه في البدء فيجوز كذلك بعد الشروع فيه، والمكلف مخير بين الاستمراروالترك، فالمندوب لا يتغير حكمه حكمه بالشروع فيه.
2 – استدلوا بحديث : ( الصائم أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر )[33]
الترجيح : الراجح هو قول الشافعية ، فالمندوب لا يجب بالشروع فيه إلا الحج والعمرة الخروج منهما لقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله )[34].
ملاحظة:
1- إن المندوبات بجملتها تعتبر مقدمة للواجبات وتُذكربها ويسهل على المكلف أداء الواجبات، لأن المكلف عندما يداوم على المندوبات يسهل عليه أداء الواجبات ويعتادها، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: " المندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم وجدته خادمأ للواجب، لأنه إما مقدمةٌ له، او تذكارٌ به سواء أكان من جنسه واجب أم لا "[35]
2 - إن المندوب وإن كان غير لازم بالنظر إلى الجزء، إلا أنه لازم باعتبار الكل، بمعنى أنه لا يصح للمكلف أن يترك المندوبات جملة واحدة، فهذا قادح في عدالته، ويستحق عليه التأديب والزجر، ولهذا هم النبي عليه الصلاة والسلام أن يحرق بيوت المداومين على ترك الصلاة جماعةً، فالأذان وصلاة الجماعة وصدقة التطوع وسنة الفجر، كلها مندوبة من حيث الجزء، لازمة من حيث الكل، فلا يصحّ تركها جملةٍ.
ومنه أيضاً: النكاح، فلا يصح تركه من قِبَل الأمة كلها، لأن في هذا الترك فناءها، فهو مندوب من حيث الجزء، أي بالنسبة للأفراد، واجب بالنسبة للجماعة، فهو كأنه فرض كفاية " فترك المندوبات كلها مؤثر في أوضاع للدين إذا كان الترك دائماً، أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له[36].
الحرام
تعريف الحرام:
الحرام لغة : الممتنع قوله والممنوع فعله[37]، كقول الشاعر :
تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكم علي إذن حرام[38]
الحرام اصطلاحا : ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم والإلزام ، أو هو ما يذم شرعا فاعله ويمدح تاركه.
شرح التعريف :
ما: اسم موصول، صفة لفعل المكلف.
طلب الشارع تركه: أي: الابتعاد عنه وعدم القيام به، ويدخل فيه الحرام والمكروه؛ لأن الشارع طلب تركهما، ويخرج من التعريف المباح والمندوب والواجب لعدم طلب تركها من الشارع.
على وجه الحتم والإلزام: فيخرج المكروه، ويبقى الحرام.
أسماء الحرام : المحظور،المعصية ، الذنب ، الممنوع ، القبيح، السيئة ، الفاحشة ، الإثم .
الأساليب التي تفيد التحريم :
1 – أن يكون اللفظ صريحا بالتحريم ، كقوله تعالى : ( حرمت عليكم أمهاتكم ...)[39] وقوله تعالى : ( وأحل الله البيع وحرم الربا )[40] ، ومنه قوله ص : ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)[41]
2 – صيغة النهي : قال تعالى : ( ولا تقربوا الفواحش ماظهر منها وما بطن ...)[42].
3 – طلب اجتناب الفعل: مثل قوله : ( يا أيها آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه )[43].
ومنه قول النبي ص : ( اجتنبوا السبع الموبقات ... )[44].
4 - استعمال لفظ لا يحل : ومنه قوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره )[45] وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها )[46]، وقوله ص : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس )[47]
5 – ترتيب العقوبة على الفعل: سواء كانت العقوبة دنيوية أو أخروية أم فيهما معا، ومن الأمثله على ذكر العقوبة الدنيوية قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون )[48]، فقد أفادت الآية تحريم القذف لترتتب عقوبة الجلد.
ومن أمثله ذكر العقوبة الأخروية قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا )[49]، ومن أمثله ذكر العقوبة الأخروية والدنيوية معا قوله تعالى: ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة )[50].
6 – كل لفظ يدل علىإنكار الفعل بصيغة مشددة مثل : غضب الله ، لعنه الله، أو نفي الإيمان ، كقوله ص : ( والله لا يؤمن – ثلاثا – الذي يؤمن جاره بوائقه )[51]
أقسام الحرام:
أنزل الله تعالى الشريعة الإسلامية لتحقيق ورعاية مصالح العباد في الدنيا والآخرة، فما شرع اللَّه حكمًا إلا لمصلحة، وما حرم شيئا إلا لضرره، والضررإما أن يكون راجعا إلى ذات الفعل ويسمى حرامًا لذاته، وإما أن يكون الضرر راجعا لأمر يتعلق بالمحرم، ويسمى حرامًا لغيره.
أولًا: المحرم لذاته: وهو ما حرمه الشارع ابتداء وأصالة[52]، مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير ولعب الميسر وشرب الخمر والزنا وقتل النفس وأكل أموال الناس بالباطل وزواج المحارم.
فالمحرم لذاته هو أمرغير مشروع أصلًا، لأن سبب التحريم يرجع إلى المحل أو إلى ذات الفعل، وأنه يشتمل على مفسدة ومضرة تتعلق بالمحرم نفسه، ويترتب على ذلك أن التعاقد مثلا على شيء محرم لذاته يكون باطلا، ولا يترتب عليه أثر شرعي، والحرام لا يصلح سببًا شرعيًّا، لعدم صلاحية المحل لظهور الحكم الشرعي فيه، فزواج المحارم باطل، والزنا باطل، وبيع الميتة باطل، والباطل لا يترتب عليه أثر شرعي.
ثانيًا: المحرم لغيره:
وهو ما كان مشروعًا في أصله، وحرمه الشارع لوصف خارج عن المحل، أي بسبب اقتران أمر آخر خارجي يسبب ضررا للمجتمع، فحرمه الشارع لهذا السبب[53]، مثل الصلاة في ثوب مغصوب، والبيع وقت النداء لصلاة الجمعة، وزواج المحلِل، والصلاة بدون طهارة، فإن الصلاة في الأول مشروعة وواجبة على المكلف، ولكن لما اقترن بها المنكر، وهو الانتفاع بالثوب المغصوب، أصبحت محرَّمة بسببه، والبيع مشروع ومباح، ولكن لما اقترن به منكر وهو الانشغال عن صلاة الجمعة صار محرمًا، وزواج المحلِّل، والغش في البيع.
وينظر العلماء إلى المحرم لغيره من جهتين متضادتين، فمن جهة أصله فهو مشروع لعدم وجود المفسدة والمضرة في محله، ومن جهة أخرى فهو حرام لما يترتب عليه من مفسدة ومضرة وهو أمر خارجي عن المحل أو الفعل، ولذا فقد اختلفت آراء الأئمة في حكم كل مسألة من المسائل السابقة، وانقسموا في تكييف أثر المحرم لغيره إلى قسمين كل منهما يرجح أحد الجانبين على الآخر، وظهر قولان:
القول الأول: يرى الحنفية أن التعاقد على المحرم لغيره يكون فاسدًا لا باطلًا، لأنهم يفرقون بين البطلان والفساد، ويرون أن الفساد مرتبة بين البطلان والصحة، وأن العقد الفاسد منعقد ولكنه غير صحيح، وأنه يجب فسخه، فإن فات ونُفذ ترتبت آثاره عليه.
القول الثاني: يرى جمهور الأئمة أن العقد على المحرم لغيره باطل كالعقد على المحرم لذاته، وأنه لا فرق بين الفساد والبطلان، وهما مرتبة واحدة، قال الآمدي: مذهب الشافعي أن المحرم بوصفه مضاد لوجوب أصله أي: إن التحريم للوصف كالتحريم للأصل تمامًا.
ونتيجة للاختلاف السابق اختلفت الأنظار في حكم كل مسألة محرمة لغيرها، ففرق الحنفية بين الصفة الجوهرية التي يتعلق بها التحريم لغيره ويكون العقد فاسدًا كالربا، وبين الصفة العارضة التي يتعلق بها التحريم لغيره، ويكون حكمها الكراهة فقط، أي: التحريمية، كالبيع وقت أذان الجمعة (.
وفرق الشافعية بين المحرم لغيره لوصف فيه كالصلاة بدون طهارة وحكمها البطلان، وبين التحريم لأمر خارج عن المحل، وحكمه الصحة مثل الطلاق في زمن الحيض، فهو صحيح لصرف التحريم إلى أمر خارج عن الطلاق وهو ما يفضي إليه من تطويل العدة، وكذا الصلاة في الأوقات والأماكن المنهي عنها.
وهذا الاختلاف يرجع إلى مقتضى النهي، هل يترتب عليه الفساد أم البطلان وهل هناك فرق بين الفساد والبطلان .
وينتج عن تقسيم الحرام إلى حرام لذاته وحرام لغيره، بالإضافة إلى الاختلاف في الفساد والبطلان ينتج أمر آخر، وهو جواز استباحة المحرم في بعض الحالات، فالمحرم لذاته يباح بهدف الحفاظ على الضروريات وهي حفظ الدين والمال والنفس والعقل والعرض، فيباح الخمر للحفاظ على الحياة عند التهلكة، ويرخص بالكفر ظاهرًا للحفاظ على النفس عند الإكراه بالقتل، أما المحرم لغيره فإنه يباح من أجل الحفاظ على الضروريات السابقة، ومن أجل الحفاظ على الحاجيات، وهي التي يؤدي تركها إلى مشقة بالغة على المكلف؛ مثل كشف العورة، فتباح للحفاظ على الحياة أحيانًا، وتباح للطبيب من أجل الاستشفاء من الأمراض، وتخفيف الألم عن المريض.
المحرم المعيَّن والمخيَّر:
ينقسم المحرم باعتبار التعيين إلى قسمين، محرم معين، ومحرم مخير فالمحرم المعين هو جميع المحرمات تقريبًا التي نهى عنها الشارع، ورتب على فاعلها العقوبة، كتحريم قتل النفس وعقوق الوالدين والعبودية لغير اللَّه، ومحرم مخير وهو أن يحرم الشارع أحد الأمرين فقط، فإذا فعل أحدهما أصبح الآخر محرمًا، وأن المكلف له أن يفعل عدة أشياء إلا واحدًا منها، وهذا القسم محصور وقليل جدًّا، وله عدة أمثلة:
1 - أن يقول رجل لزوجاته: إحداكن طالق، فتحرم واحدة منهن، فإذا عاشر الزوج ثلاثًا فالرابعة محرمة، كما يجوز أن يعين إحداهن للطلاق أيضًا.
2 - النهي عن الجمع بين الأختين في وقت واحد، فالشريعة أجازت الزواج بكل منهما، لكن إذا تزوج إحدى الأختين حرمت عليه الأخرى، ما لم يطلق الأولى أو تموت، وكذلك الجمع بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها.
3 - نص القرآن الكريم والسنة الشريفة على التخيير في التحريم بين الأم وبنتها، فكل منهما يجوز الزواج منها، ولكن إذا تزوج من إحداهما حرمت عليه الأخرى قال تعالى: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ )[54].
٤ - كان العرب يجمعون بين عدد غير محدود من الزوجات ، وجاء الإسلام وبعضهم عنده عشر زوجات، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه: ( أمسك أربعًا وطلق سائرهن )[55] ، فتعدد الزوجات زيادة على الأربع زوجات حرام، ولكن لم يعين الشارع المحرمة منهن، وترك الخيار للزوج.
المكروه
تعريف المكروه
المكروه لغة: القبيح، من كَرُه الأمر مثل قَبُح، وزنًا ومعنى، وهو ضد المحبوب، والكريهة الحرب، أو الشدة في الحرب[56] .
المكروه اصطلاحا: المكروه هو ما طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم . أو هو ما يمدح تاركه ولا يذم فاعله .
فالمكروه هو الفعل الذي طلب الشارع تركه، وكان هذا الطلب بدون إلزام، مما يدل على رغبة الشارع في تركه و الابتعاد عنه، وهو ما يستحق تاركه المدح والثناء والأجر والثواب من اللَّه تعالى، أما فاعله فلا يستحق العقاب والذم، وقد يستحق اللوم والعتاب على المداومة على فعله، ومثال المكروه أكل لحم الخيل، عند الحنفية وفي قول عند المالكية[57]، وترك السنن المؤكدة، والصلاة في الأوقات المكروهة، والمكروه يقابل المندوب، ولذا يطلق على ترك المندوب، ويطلق على ترك كل مصلحة راجحة .
ملاحظة : كان السلف الصالح يطلقون المكروه على الحرام ورعا وخوفا واحتياطا على ما لم يرد تحريمه بنص صريح، وكان الإمام مالك يقول : أكره كذا وهو حرام[58]، مثل قولهم: يكره التوضؤ بآنية الذهب والفضة ، ويقصدون يحرم.
الأساليب التي تدل على الكراهة:
1 - اللفظ الصريح بالكراهة، وما يشابهها من الألفاظ التي تصرح بعدم الاستحسان، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم : ( إن اللَّه كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال )[59]، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق)[60].
2 - أن ينهى الشارع عنه نهيًا مقترنًا بما يدل على صرفه إلى الكراهة، مثل قوله تعالى في كراهة السؤال عن المباح خشية أن يحرم على المؤمنين: ( لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )[61] ، والقرينة التي صرفت النهي عن التحريم إلى الكراهة هي قوله تعالى: ( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا )[62]
3 - أن يطلب الشارع اجتنابه وتركه مع القرينة التي تدل على الكراهة دون التحريم، مثل قوله تعالى في كراهة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة عند الحنفية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )[63]، قال الحنفية: القرينة على صرف الطلب من التحريم إلى الكراهة أن البيع مشروع ومباح في أصله، وإنما كره لأنه يشغل عن الصلاة.
ونلاحظ أن الأساليب التي تفيد التحريم والكراهة واحدة تقريبًا وتشترك فيما بينها، فإن طلب الشارع الكف عن أمر، أو جاء النهي عامًّا، أو طلب الاجتناب مطلقًا، كان الفعل حرامًا، وإن وجدت القرينة التي تصرفه عن الحرمة كان مكروهًا، ومن القرائن اللفظية والنصية ترتيب العقوبة على الفعل أو عدم ترتيبها[64] .
حكم المكروه
إن الفعل المكروه يشتمل على بعض المفاسد، ولذا ترجح طلب تركه على طلب فعله، ولكنه لم يصل إلى درجة الحرام، وإن فاعله لا يستحق العذاب والعقاب في الدنيا والآخرة، وقد يستحق اللوم والعتاب على فعله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( فمن رغب عن سنتي فليس مني )[65]، وتارك المكروه يمدح ويثاب إذا نوى به التقرب إلى اللَّه تعالى.
ويتفرع عن بحث المكروه عدة أحكام هي:
1- اختلف العلماء في المكروه، هل هو منهيٌّ عنه أم لا؟
كما اختلفوا في المندوب هل هو مأمور به أم لا؟ والجمهور على المكروه منهي عنه حقيقة، خلافًا للحنفية، كما أن المندوب مأمور به، والأدلة واحدة، والخلاف واحد، وقد سبق الكلام عنه في المندوب.
2 - اختلف العلماء في المكروه هل يعتبر حكمًا تكليفيًّا أم لا؟
ذهب الجمهور إلى أنه ليس تكليفًا، لأن تركه ليس إلزامًا، ولا كلفة فيه، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: إنه تكليف، والأدلة نفسها التي سبقت في المندوب.
وخلاصة القول: إن المكروه مع المحرم كالمندوب مع الواجب.
ملاحظة : إن الحنفية يقسمون المكروه إلى قسمين، مكروه تحريمي ومكروه تنزيهي، والمكروه التحريمي هو ما طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا بدليل ظني مثل لبس الحرير والذهب على الرجال الثابت بحديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ( هذان حرام على رجال أمتي حلٌّ لإناثهم )[66]، والبيع على بيع الآخر، والخطبة على خطبة غيره،
وحكمه أنه قسم للمحرم وليس قسم للمكروه، وهو قسم من الحرام عند الإمام أبي حنيفة والإمام أبي يوسف، وإن أطلق عليه لفظ المكروه، ويأخذ أحكام الحرام من تحريم للفعل وطلب الترك واستحقاق العقاب على الفعل، ولكن لا يكفر جاحده.
والمكروه التنزيهي هو ما طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم، وحكمه مثل حكم المكروه المذكور عند الجمهور سابقًا، وأن فاعله يخالف الأولى في المكروه، مثل الوضوء من سؤر سباع الطير، وأكل لحوم الخيل .
٤ - قسم بعض الشافعية المكروه إلى قسمين، بحسب الدليل في النهي، فإن كان النهي غير الجازم مخصوصًا بأمر معين فهو مكروه، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )[67] ومثل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل، فإنها خلقت للشياطين ، وإن كان النهي غير الجازم غير مخصوص بأمر معين فيكون فعله خلاف الأولى، كالنهي عن ترك المندوبات وإفطار المسافر في رمضان[68].
المباح
تعريف المباح:
المباح لغة : اسم مفعول من أباح، وهو المسموح، وهو ضد المحظور، أبحتك الشيء أحللته لك[69]، والإباحة التخلية بين الشيء وطالبه.
المباح اصطلاحا: هو ما خيَّر الشارعُ المكلَّف بين فعله وتركه[70]، فلم يطلب الشارع من المكلف أن يفعل هذا الفعل ولم يطلب منه أن يكف عنه.
الأساليب الدالة على الإباحة :
النص على الإباحة : تثبت إباحة الفعل بالنص الشرعي على إباحته، فيرد النص
برفع الإثم أو الحرج على الفعل، فيدل بهذا الأسلوب على إباحته كقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَىٰ )[71] وقوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ
اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ )[72] ، وكقوله سبحانه وتعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء)[73] ،
الأمر المقترن بقرينة تدل على الإباحة: كما جاء أمرالشارع بفعل ودلت القرائن على أن الأمر للإباحة كقوله تعالى: ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ )[74] وكقوله سبحانه ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ )[75] ، ، وكقوله: ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل )[76] لأن الأمر بعد النهي يدل على الإباحة.
الإباحة الأصلية: و تثبت إباحة الفعل بالإباحة الأصلية، فإذا لم يرد من الشارع نص على حكم الفعل، ولم يقم دليلٌ شرعيٌ آخر على حكم فيه كان هذا مباحا بالبراءة الأصلية لأن الأصل في الأشياء المباحة، فنحكم على العقد أو التصرف أو الفعل بالإباحة.
والأدلة على قاعدة الإباحة الأصلية كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية قال تعالى : (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا )[77] ، وقال تعالى : (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه )[78] ويقول الرسول ص : (إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء، رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنه ).[79]
ويقول ص : ( ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم )[80].
[1] سورة هود آية 91 .
[2] سورة طه آية 27 .
[3] سورة الإسراء آية 44 .
[4] القاضي عبد الله بن عمرالبيضاوي ، منهاج الأصول إلى علم الأصول ، ص 3 ..
[5] النساء آية 11 .
[6] المائدة آية 3
[7] البقرة آية 216 .
[8] متفق عليه .
[9] عبد الوهاب خلاف ، علم أصول الفقه ، دار الفكر العربي ، د ط ، د ت ، ص 14 .
[10] - المائدة 3 .
[11] - الأنعام آية 145 .
[12] - صحيح رواه أبوداود والترمذي
[13] - البخاري ومسلم
[14] عبد الكريم النملة ، كتاب الجامع لمسائل أصول الفقه وتطبيقاتها على المذهب الراجح، مكتبة الرشيد، الرياض ، ط 1 ، 2000 ، ص19
[15] عبد الكريم النملة ، مرجع سابق ، ص 19 .
[16] عبد الكريم النملة، ص 19 .
[17] الحج 36
[18] عبد الكريم زيدان ، الوجيز في أصول الفقه ، مؤسسة الرسالة ، ص 29 .
[19] عبد الكريم النملة ، مرجع سابق ، ص 23 .
[20] عبد الكريم النملة ، ص 24 .
[21] عبد الوهاب خلاف ، أصول الفقه ، ص 109 .
[22] - لسان العرب ، ج 1 ، ص 754 .
[23] - الشاعر قريط بن أنيف التميمي، شاعر جاهلي ، الزركلي ، الأعلام حرف القاف .
[24] - البقرة:282
[25] - البقرة:183
[26] - النور:33
[27] - النسائي وابن ماجة .
[28] - رواه أحمد والبيهقي والطبراني .
[29] - رواه أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي .
[30] - رواه مسلم والترمذي والحاكم .
[31] - رواه البخاري ومسلم .
[32] - محمد آية 33 .
[33] - رواه أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم .
[34] - البقرة آية 196 .
[35] - الموافقات ، الشاطبي ، ج 1 ، ص 151 .
[36] - الموافقات ، الشاطبي ، ج 1 ، ص 132 ، 133 .
[37] - الفيومي أحمد ،المصباح المنير، ج 1،ص 180 ، أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصرة، ج 1 ، ص 482 .
[38] جرير
[39] - النساء آية 23 .
[40] - البقرة آية 275 .
[41] - رواه مسلم وأبوداود وابن ماجة .
[42] - الأنعام آية 151 .
[43] - المائدة آية 90.
[44] - متفق عليه .
[45] - البقرة آية 230 .
[46] - النساء 19 .
[47] - رواه أحمد وابن حبان
[48] - النور آية 4 .
[49] - النساء 23 .
[50] - النور آية 19 .
[51] - أخرجه البخاري معلقا .ومسلم .
[52] - محمد مصطفى الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 354 .
[53] - المرجع نفسه ، ج 1 ، ص 355 .
[54] - النساء 23 .
[55] - صحيح الترمذي وأحمد وابن ماجه .
[56] - المصباح المنير ، ج 2 ، ص 829 .
[57] - وقيل جائز ( العدوي ،حاشية العدوي على شرح الخرشي على مختصر خليل ، دار الفكر ، بيروت ، ج 3 ، ص 30 .)
[58] - ابن القيم الجوزية ، إعلام الموقعين ، ج 2 ، ص 79 .
[59] - البخاري ومسلم .
[60] - أبوحاتم والبيهقي،
[61] - المائدة: 101 .
[62] - المائدة: 101 .
[63] - الجمعة: 9 .
[64] - وهبة الزحيلي، الوسيط في أصول الفقه الإسلامي، ج ، ص
[65] - متفق عليه .
[66] - أبوداود والنسائي وابن ماجة .
[67] - متفق عليه .
[68] عبد الكريم زيدان ، الوجيز في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 370- 371 .
[69] - ابن فارس ، معجم مقاييس اللغة ، ج 1 ، ص 316 ، مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، ج 1 ، ص 17 .
[70] - الجويني أبو المعالي ، التلخيص في أصول الفقه ، ج 1 ، ص 250 .
[71] - البقرة آية 203 .
[72] - البقرة: 299 .
[73] - البقرة: 235 .
[74][74] - المائدة 2 .
[75] - الجمعة 10 .
[76] - البقرة 187
[77] - البقرة آية 29 .
[78] - الجاثية آية 13 .
[79] - الدارقطني والبيهقي والحاكم .
[80] - البخاري ومسلم .
لا يخفى أن تطور الدول يقاس باقتصادها ،وكلما كان اقتصادها قويا كانت أقدر على تجاوز الأزمات ،وهذا ما تسعى إليه الدول الكبرى ،وأكيد أنّ الاقتصاد يخضع لنظام قانوني محكم يؤطر الهياكل والتعاملات بما في ذلك العلاقات الاقتصادية وطريقة تسيير الاقتصاد سواء كان بيد الدولة أو بيد الخواص.
ولعل تدخل الدولة أمر لم تسلم منه المنظومات الاقتصادية فيما مضى خصوصا حينما أثبتت المبادرات الخاصة في فرنسا محدودية قدرتها على السير بالاقتصاد قدما ،الى أن حتّمت الضرورات الاقتصادية انسحاب الدولة تاركة المجال أمام اقتصاد السوق وهذا الواقع عاشته الجزائر ابتداء من التسيير الاشتراكي الذي يتميز باحتكار الدولة للاقتصاد بكل نشاطه،وصولا الى التسيير الليبيرالي الذي يفرض اقتصاد السوق.
وفي خضم هذه التغيرات من الواجب أن تستحدث أيضا القواعد القانونية والأنظمة التي تساير الأوضاع الجديدة ،إضافة الى الهياكل التي تساهم في تأطير هذه المستجدات والقانون الاقتصادي هو المعني بذلك فالقانون توأم لكل مجال كي لا تسود الفوضى ،لذلك نجده ينظم الاقتصاد مثلما ينظم غيره ،فقد ساير النظام الاشتراكي بالقواعد التي تملي الاشتراك في وسائل الإنتاج ومركزية القرارات ،في حين طابق انفتاح الاقتصاد بتثمين المبادرة الخاصة وحمايتها وتنظيمها ورسم حدودها التي لا يجب أن تتجاوزها.
وإجمالا يمكن تعريف القانون العام الاقتصادي كفرع من فروع القانون الحديثة على المستويين المحلي والدولي الذي يسعى لتأطير المجال الاقتصادي ويظبط العلاقة بين أطرافه .
والقانون العام الاقتصادي الجزائري أحد الروافد التي تأثرت بالتغيرات على الصعيد الداخلي والخارجي ،مثلها مثل غيرها من الدولCe cours s'adresse aux étudiants de master du système LMD dans le domaine des sciences et de la technologie, spécialité : énergies renouvelables. En général, l'objectif est de fournir aux étudiants les connaissances et les compétences nécessaires pour comprendre les systèmes multi-sources d'énergie renouvelable, qui comprennent plusieurs sources d'énergie verte renouvelable telles que le solaire, l'éolien, l'hydroélectricité, la biomasse, etc., pour répondre à la demande en énergie d'un système spécifique, qu'il soit autonome ou connecté au réseau électrique. Ces systèmes incluent généralement plusieurs composants spécialisés pour la conversion, le stockage et la gestion de l'énergie, ainsi que des systèmes de contrôle et de surveillance. L'objectif principal de cette unité est d'améliorer l'utilisation des ressources énergétiques disponibles tout en garantissant un approvisionnement électrique stable et fiable, contribuant ainsi à la durabilité et à la résilience du système énergétique dans lequel il est intégré.
مقياس الاتصال والتحرير الإداري (Communication and Administrative Writing Module) هو إحدى مساقات الدراسات الإدارية، والذي تهدف إلى تنمية مهارات الطلبة في الاتصال الفعال والكتابة الإدارية الصحيحة والمؤثرة. تعتبر هذه المادة أساسية لطلبة علوم التسيير خصوصا وبالأخص إدارة الأعمال.
بشكل عام، تساعد مادة الاتصال والتحرير الإداري في تحسين مهارات الاتصال والكتابة الإدارية لدى الطلبة ، وتزودهم بالمهارات اللازمة للتعامل مع التحديات المختلفة في العمل الإداري بكفاءة وفعالية. هو مقياس يستخدم لاكتساب مهارات الاتصال الكتابي والتحرير الإداري لتأهيل الطلبة للتقدم للوظائف في القطاع العام والخاص، وتتيح أمامهم التعرف على أهم المحررات الإدارية ونماذج الرسائل التجارية.
Les équations différentielles ordinaires (EDO), sont très importantes dans l’application de certains phénomènes réels, car un grand nombre de lois et de relations physiques sont modélisées en mathématiques par des équations différentielles. L’usage de ces équations vise à décrire le comportement des systèmes évoluant dans le temps. Une équations différentielle est une relation entre une ou plusieurs fonctions et leurs dérivées. L’ordre d’une équation différentielle est le degré maximal de différentiation d’une de ces fonctions. Ici l’inconnue sera une fonction. Bien qu’il existe plusieurs méthodes de résolution des équations différentielles, un grand nombre d’entre elles ne peut être résolu explicitement jusqu’à présent, c’est pour ça qu’on s’oriente vers l’étude qualitative des équations différentielles ; à savoir l’étude de l’existence et stabilité des solutions des EDO.
مر الحكم الفرنسي في الجزائر بمرحلتين ، مرحلة الحكم العسكري 1830 إلى غاية 1870 و شهدت فيها الجزائر حملة شرسة عسكرية طبق فيها اسلوب القمع العسكري ، و المرحلة الثانية عرفت بمرحلة الحكم المدني وامتدت من 1870 إلى غاية 1962وعرفت بمرحلة حكم الكلون وكانت اشد من سابقتها فقد انتهجت فيها اسلوب القمع و الابادة و بمختلف الاأساليب.
إن المنطق المتعدد القيم منطق معاصر، تم تشييده من أجل تجاوز المشكلات الابستمولوجية التي وقفت أمام المنطق الرياضي الكلاسيكي الثنائي القيم، نتيجة عجز هذا الأخير عن حل معضلات أفرزها العلم المعاصر ، مثل ما ترتب من نتائج عن المعادلة الإرتيابية التي اكتشفها هايزنبرج والتي بموجبها أصبحت الميكروفيزياء مجالا للاحتمية والاحتمال والشك. لذلك عمد مؤسسي هذا المنطق المتعدد من أجل المحافظة على اليقين من جهة، والقضاء على المذهب الحتمي الذي يؤطره المنطق الثنائي من جهة أخرى ، إلى رفض أن يبنى المنطق على قيمتين للصدق فقط. بل لابد أن تكون له أكثر من قيمتين، ذلك أنه وحسبهم أن ذلك سيٌمكن من تجاوز تلك المشكلات المعلنة أعلاه. وفعلا ونتيجة ذلك ظهرت أساق منطقية بثلاثة قيم وبأربعة وبخمسة بل وظهر المنطق اللانهائي القيم ، لكن هذا المنطق نفسه اصطدم بمشاكل ابستمولوجية اعترضت نتائجه، تعلقت بالغموض الذي ارتبط بمبدإ الثالث المرفوع ، ليظهر منطق متعدد جديد هو المنطق الضبابي أو الغائم. إننا في هذا المقياس سنقوم ببسط وعرض هذا المنطق تحليلا ونقد لمفاهيم ومبادئ وطرائق البرهان لديه وللمشكلات الابستمولوجية المترتبة عن نتائجه.
وفي هذه المحاضرة سنتناول بالتحليل والنقد نسق كورنر الثلاثي القيم.
Mathématiques 2: Résumé de cours, Exercices avec Solutions
Cet ouvrage est dédié aux étudiants premières années pour les disciplines:
· Sciences et technologies.
· Sciences de la Matières
· Math et informatique.
Qui va permettre aux étudiants de construire une base très forte en mathématiques en qualité d’observation, d’analyse et réflexion de calcul pour les réparés aux futures spécialités d’ingénieur, qui va couvre l'ensemble des unités d'enseignement du programme pédagogique national.
Semestre : 2
Matière: Mathématique 2
VHS: Cours: 1h30, TD: 1h30
Crédits: 6
Coefficient: 3

Objectifs de l’enseignement: Ce module permet d’introduire les notions de base de l’algèbre et de la théorie des ensembles.
Ce cours Cible les étudiants de: est dédié aux étudiants premières années pour les disciplines: Sciences et technologies, Sciences de la Matières et Math et informatique, l’étudiant devra posséder les connaissances de module Mathématique u niveau secondaire.
يعتبر مقياس مالية المؤسسة من أهم المقاييس الموجهة لطلبة السنة الثانية ليساني في قسم