لقد تم تبني المسؤولية الإدارية بدون خطأ من قبل القضاء والفقه الإداريين لمعالجة حالات عرفها القضاء لم يكن يمكن التعويض عنها بناء على المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ ، إما للصعوبة إثبت الخطأ تجاه الإدارة العامة أو إستحالة ذلك وإما لأنه أصلا لا وجود للخطأ ، حيث أن النشاط الإداري المحدث لأضرار الجسيم غير العادي والخاصة كان مشروعا ، ففي تلك الفترة كان يحرم المتضررين ضررا جسيما وخاصا من التعويض ، وفي ذلك ظلم كبير فلرفع هذا الظلم تم تبني المسؤولية الإدارية بدون خطأ والتي لا تقوم على الخطأ المرفقي وإنما هي مبررة بمبادئ العدل والإنصاف ، فهي تقوم على مبادئ أخرى كمبدأ التضامن الوطني ومبدأ المساواة أمام الأعباء العامة ، وكذلك مبدأ نظرية المخاطر.

وعموما سنكتفي في درسنا هذا بعرض تطبيقات للمسؤولية الإدارية على أساس نظرية المخاطر والمسؤولية الإدارية على أساس مبدأ المساواة أمام الأعباء والتكاليف العامة ، وذلك على النحو التالي :

أولا : تطبيقات المسؤولية الإدارية على أساس نظرية المخاطر

ومفاد هذه النظرية أن الفعل أو النشاط الإداري الذي سبب الضرر الخاص والجسيم ينطوي على خطورة معينة ، ولقد عرفت هذه النظرية العديد من التطبيقات كشف عنها الإجتهاد القضائي الإداري ، حيث تولدت هذه التطبيقات عن العديد من القضايا التي عرضت على القضاء الإداري ، وتتمثل أبرز هذه التطبيقات فيما يلي :

01/ التعويض عن الأضرار الناجمة عن الإضطرابات والقلاقل الاجتماعية : فكلما كان هناك مساس خطير بالأمن العام ولحقت أضرار خاصة وجسيمة ببعض أفراد المجتمع فإن الدولة تلزم بالتعويض عن الأضرار الناجمة عن هذه القلاقل والإضطرابات الاجتماعية ، ومن أمثلتها التظاهرات والتجمعات والتجمهر كذلك العصيان المدني وأعمال الشغب والعمليات الإرهابية ، فإذا تسببت مختلف هذه الحالات في أضرار معينة فالدولة تقوم بالتعويض رغم أنها ليست التي قامت بهذه الأعمال ، فهي مسؤولية بدون خطأ ، والخطأ ناتج عن الغير لكن كما ذكرنا الدولة لا تستطيع إنفاء المسؤولية عن نفسها بإثبات خطأ الغير

وهناك من الفقه من يؤسس المسؤولية الإدارية في هذه الحالة على أساس مبدأ التضامن الوطني

02 / التعويض عن الأضرار العرضية الناجمة عن الأشغال العامة اللاحقة بغير المنتفعين

ويعرف الشغل العام على أنه كل إعداد مادي لعقار يقوم به شخص معنوي عام أو لحسابه في اطار تحقيق المصلحة العامة وتسير المرافق العامة

ويشترط لقيام هذا التطبيق وتأسيس المسؤولية الإدارية على نظرية المخاطر أن تكون الأضرار عرضية مؤقتة ومفاجئة وليست مستمرة ودائمة ، كما يشترط ان تلحق هذه الأضرار الجسيمة الخاصة بغير المنتفعين من الشغل العام ، فإن كان المتضرر من الشغل العام بضرر عرضي من المنتفعين فالمسؤولية هنا مسؤولية إدارية قائمة على أساس الخطأ المفترض ، وليس على أساس نظرية المخاطر

03 / نظرية المخاطر المهنية

وعرفت هذه النظرية تطورا تاريخيا ، ففي البداية كانت الإدارة العامة مسؤولة على المخاطر المهنية للأعوان الدائمين ، أي الموظفين التابعين للإدارة العامة ، فالإدارة مطالبة وملزمة بتوفير الحماية لموظفيها العامين من كل الإعتداءات والإهانات والتهديدات والسب ، أي كل ما يمكن أن يتعرض له من إعتداء وأذى نتيجة قيامهم بتأدية وظائفهم أو بسببها .

ومسؤولية الإدارة العامة عن المخاطر المهنية لأعوانها الدائمين مكرسة ليس فقط في القضاء بل حتى بموجب نصوص قانونية في الجزائر ، مثلا نجد نص المواد 146 و 148 من قانون البلدية والتي تلزم البلدية بتعويض المنتخبين( رئيس المجلس الشعبي البلدي وأعضاءه) عن كل التهديدات التي يتعرضون لها ، ولو أنها تلحقهم من الغير إلا أن البلدية هي المسؤولة عن التعويض ولها الرجوع على الغير،  فهذه كما قلنا إحدى تطبيقات المسؤولية الإدارية بدون خطأ .

وكذلك نذكر المواد 138 و 139 من قانون الولاية والتي تلزم الولاية كذلك بدفع التعويض لرئيس المجلس الشعبي الولائي وأعضائه عن ما يلحقهم من تهديدات ، وفي المادة 29 من القانون الأساسي للقضاء فحتى القضاة تحميهم الدولة من كل أنواع التهديدات والإهانات التي يمكن أن يتعرضوا لها بسبب تأدية مهامهم أو بمناسبتها ، فكل إدارة عامة ملزمة ومسؤولة عن حماية أعوانها الدائمين (الموظفين عامين) التابعين لها أثناء تأدية مهامهم أو بسببها ولها الرجوع على من قام بهذه الأفعال .

لم تقتصر مسؤولية الإدارة على أساس نظرية المخاطر المهنية عند هذا الحد أي المخاطر المهنية لأعوانها الدائمين ، بل حتى الأعوان العراضيين المؤقتين حيث تقوم مسؤولية الإدارة العامة على أساس المخاطر المهنية لأعوانها العرضيين ، أي ليس الموظفين العامين الدائمين بل المواطنين الذين قدموا المساعدة والعون ، إما جبرا أو طواعية (اختياريا) ، حيث أنه في بعض الأحيان يلزم القانون المواطنين بتقديم المساعدة والعون للإدارة العامة إذا ما طلبتها ، ويمكن حتى أن يتعرضوا للعقوبة إذا ما إمتنعوا عن تقديم هذه المساعدة المنصوص عليها قانونا ، أي في حالة عدم إمتثالهم للتسخير ، والمثال على ذلك القانون المتعلق بالنظام العام للغابات ( القانون رقم 84 - 12 ) في الماده 20 منه والتي تسمح للسلطات المختصة بمكافحة الحرائق بتسخير كل من ترى أنه يمكن أن يساعدها في إطفاء الحرائق ، ففي حالة تقديم المواطنين لهذه المساعدات وتعرضهم بسببها للخطر ولحقتهم أضرار جسيمة وغير عادية وخاصة ، فهنا تلتزم الإدارة العامة بتعويضهم .

ومن التطبيقات القضائية على هذا النوع من المسؤولية نذكر مثلا قرار مجلس الدولة الفرنسي المؤرخ في 05 مارس 1943 ، حيث تضرر أحد المواطنين نتيجة تقديمه مساعدة لرجال الدرك الوطني لإطفاء الحريق ، فحكم له مجلس الدولة بالتعويض وكان الضحية مجبرا على تقديم المساعدة.

وكذلك قرار مجلس الدولة الفرنسي المؤرخ في 30 نوفمبر 1945 ، حيث قام أحد المواطنين جبرا بمساعدة الشرطة في محاولة لإيقاف عملية انتحار فلحقته أضرار خاصة وجسيمة ، وقضى له مجلس الدولة بالتعويض على أساس المخاطر المهنية للأعوان العراضيين .

وكذلك في 22 نوفمبر 1941 قضى مجلس الدولة الفرنسي بتعويض المواطنين الفرنسيين اللذان لحقتهما أضرار خاصة وجسيمة بسبب تقديمهما للمساعدات طوعا واختيارا للبلدية لاطلاق الألعاب النارية في إحدى الحفلات المحلية .

وكذلك في الجزائر قضت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا في تاريخ 11 مارس 1989 بتعويض ذوي الضحية التي فقدت حياتها جراء تقديمها لمساعدة اختيارية لرجال الجمارك .

الفصل الفجائي : ويعتبر هذا الفصل من تطبيقات المخاطر المهنية لأعوان الإدارة العامة ، حيث أنه إذا رات الإدارة العامة أن لديها فائض في عدد الموظفين وأنه ولتحقيق المصلحة العامة وترشيد النفقات العامة ، لابد من تسريح عدد من الموظفين ، فهنا تلتزم بتعويضهم من الخزينة العامة جراء ما لحقهم من أضرار جسيمة وخاصة ، فيتحمل المجتمع كله تابعة أو أعباء تحقيق المصلحة العامة والتحمل هذا يكون عن طريق دفع تعويض كامل ومناسب للموظفين المسرحين من مال الشعب عن طريق اقتطاعه من الخزينة العامة .

04/ مخاطر الجوار غير العادية

وهي مخاطر تهدد المواطنين أو السكان الذين يقيمون بجوار أماكن ومنشأت خطيرة كمستودعات الدخائر والأسلحة ، فإذا حدث انفجار ما فإن المتضررين منه لا يلزمون بإثبات قيام الخطأ ، حيث يكفي أنهم يجاورون أماكن ومنشأت خطيرة تمارس أنشطة خطيرة ، فهذا الخطر يبرر قيام مسؤولية الدولة حتى بدون خطأ ، وهو ما قضى به مجلس الدولة الفرنسي من خلال ما ذهب إليه حين قضى بأنه : "لا يتعين تحميل المجاورين عبء إثبات الخطأ الناجم عن أنشطة هي في حد ذاتها أنشطة خطيرة تم إنجازها في إطار المصلحة العامة"

05 / التعويض عن الاضرار الناجمة عن استعمال الأشياء الخطيرة أو ممارسة الأنشطة الخطيرة

والمثال على الأشياء الخطيرة استعمال الأسلحة والالات الخطيرة ، وكذلك المعالجة بالمواد الطبية الخطيرة من خلال استعمال المنتوجات الدموية في مراكز الطبية ومخاطر انتقال العدوى الخطيرة ، فلا حاجة هنا لإثبات الخطأ بل يكفي أن هذه الاشياء والأنشطة تنطوي على خطورة ، فمثلا من الأنشطة الخطيرة عملية مطاردة الشرطة للمجرمين ، ففي حالة إصابة المواطنين أي الغير أثناء هذه المطاردة تقوم مسؤولية الشرطة بدون خطأ على أساس المخاطر ، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أنه إذا تم إصابة المجرم نفسه فهنا المسؤولية الإدارية تقوم على أساس الخطأ .

وكذلك من الأنشطة الخطيرة مثلا التلقيح الإجباري فإذا اصيب أحد الملقحين باللقاح الإجباري بضرر خاص وجسيم هو دون غيره ، فهنا له المطالبة بالتعويض وتتحمل الإدارة العامة المسؤولية على أساس المخاطر المتمثلة في نشاطها الخطير .

ثانيا : تطبيقات المسؤولية الإدارية على أساس مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة

من الأسس التي تقوم عليها المسؤولية الإدارية بدون خطأ إلى جانب نظرية المخاطر مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة ، حيث أنه إذا قامت الإدارة العامة بإجراءات معينة بهدف تحقيق المصلحة العامة ، ولكن في المقابل قامت بالتضحية بمجموعة من المواطنين أو بمجموعة من أعضاء المجتمع وألحقت بهم أضرار جسيمة وخاصة ، فحتى لا يتحملها هؤلاء وحدهم نتيجة استفادة البقية من المصلحة العامة ، لابد من تعويضهم على أساس أو لتحقيق المساواة أمام الأعباء والتكاليف العامة ، لهذا يتم تعويضهم من الخزينة العامة ليتم توزيع العبء على الكافة ، ومن أهم تطبيقات هذه المسؤولية الإدارية بدون خطأ على أساس المساواة أمام الأعباء العامة نذكر :

01 / التعويض عن الأضرار الناجمة عن القوانين والمعاهدات والقرارات الإدارية المشروعة : والمثال على ذلك قرار نزع الملكية الخاصة للمنفع العامة ، فهو قرار مشروع لا يوجد خطأ ويحقق المصلحة العامة ولكن على حساب تحميل من نزعت ملكيته الخاصة عبء استفادة الاخرين من المصلحة العامة ، وبالتالي لحقه ضرر خاص وجسيم لذا وجب تعويضه لتحقيق مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة ، وحتى القوانين إذا كانت وإلى وقت قريب لا تطرح فكرة التعويض عن الأضرار الناجمة على القوانين على اعتبار أن هذه الأخيرة من أعمال السيادة وأنها تتضمن قواعد عامة ومجردة لا يتصور أنها تلحق أضرارا خاصة ، فكان المبدأ السائد هو عدم التعويض عن القوانين ولكن مع التطور الذي شهده القضاء الإداري وماعرفه من قضايا بهذا الخصوص فقد تم الاعتراف بمسؤولية الدولة عن تعويض الأضرار الناجمة عن قوانينها على أن تكون الأضرار بطبيعة الحال خاصة وجسيمة ، وذات الأمر ينطبق على المعاهدات الدولية التي تبرمها الدولة .

02 / التعويض عن الأضرار الدائمة والمستمرة للشغل العام : كذلك في هذا التطبيق تقوم المسؤولية الإدارية للإدارة العامة بدون خطأ على أساس مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة إذا لحق بالمنتفعين بالشغل العام أو الغير أضرار دائمة ومستمرة وليست مؤقتة ، هنا تتحمل الإدارة العامة التعويض عن الأضرار الجسيمة والخاصة .

والمثال على هذا التطبيق ضرورة التعويض عن الأضرار الدائمة والمستمرة الناتجة عن الأشغال المقامة على طريق من الطرق أدت هذه الأشغال إلى منع ولوج المواطنين إلى الفنادق والمحلات الموجودة على هذا الطريق ، نلاحظ هنا أن هذه الفنادق والمحلات سوف تتضرر وأضرارها دائمة مستمرة بسبب استمرار الشغل العام لمدة طويلة جدا فالضرر خاص فقط بهذه المحلات والفنادق ويصل إلى درجة من الجسامة ، فيحق لها المطالبة بالتعويضة .

إذن نلاحظ اختلاف هذا التطبيق عن التطبيق السالف الذكر في نظرية المخاطر ، حيث أنه لابد أن تكون الأضرار دائمة ومستمرة وليست عرضية ، ولا يهم إن كان المتضرر منتفع أو غير منتفع من الشغل العام ، وهذا على عكس الصورة السابقة حيث أنه يجب أن يكون الضرر مؤقت ويلحق بغير المنتفعين .

03 / التعويض عن الاضرار الناجمة عن امتناع الإدارة العامة عن تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية حماية للنظام العام :

الإدارة العامة ملزمة بتنفيذ الأحكام والقرارات القضائية وهو إلتزام دستوري على كل هيئات وأجهزة الدولة ، وسواء كانت الأحكام أو القرارات القضائية صادرة ضد الإدارة العامة أو بين المواطنين ، فالإدارة ملزمة بتنفيذ كل الأحكام وعند الاقتضاء ملزمة بتسخير القوة العمومية لتنفيذ مختلف الأحكام والقرارات القضائية ، فإذا امتنعت الإدارة العامة عن تنفيذ الحكم أو قررت تأجيل تنفيذه بحجة المحافظة على النظام العامة ولحق نتيجة لذلك أضرار جسيمة وخاصة بمن صدر الحكم أو القرار القضائي لصالحه، فهنا تلتزم الإدارة بدفع التعويض وتتحمل المسؤولية الإدارية بدون خطأ على أساس المساواة أمام الأعباء العامة ، أما إذا امتنعت الإدارة عن تنفيذ الحكم القضائي ولم يكن مبررها المحافظة على النظام العام بل مثلا تحقيقا للمصلحة الخاصة فهذا القرار هو قرار إداري بالامتناع وهو قرار غير مشروع ، وهنا تكون الإدارة قد ارتكبت خطأ فبعد إلغاء القرار الإداري غير المشروع تلزم بالتعويض على أساس الخطأ ، وتتحمل إذا المسؤولية الإدارية على أساس الخطأ ، أما إذا كان الإمتناع أو التأجيل مبررا للنظام العام وتحقق القاضي من ذلك كذلك تدفع التعويض ولكن على أساس مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة .

ومن أمثلة هذا التطبيق نجد قضية المعمر الفرنسي الذي تحصل على حكم قضائي بملكية أرض زراعية في تونس ، قام هذا المعمر باللجوء إلى الإدارة العامة الفرنسية لتنفيذ الحكم الصادر ضد المزارعين التونسيين مطالبا منها تنفيذ الحكم وطرد المزارعين من المزرعة ، إلا أن الإدارة العامة امتنعت عن تنفيذ الحكم القضائي بحجة أن ذلك سوف يمس بالنظام العام ، رفع المعمر الفرنسي دعوى ضد الإدارة العامة الفرنسية أمام مجلس الدولة لإمتناعها عن تنفيذ الحكم القضائي ، وهنا قضاء مجلس الدولة بأنه يجوز ويمكن للإدارة العامة أن تقرر تأجيل تنفيذ الأحكام القضائية للمحافظة على النظام العام ، ولكن في نفس الوقت تلتزم الإدارة العامة بتعويض الأضرار الناجمة عن هذا التأجيل ، وبالفعل تم الحكم له بتعويض كامل وعادل عن الأضرار الخاصة والجسيمة التي لحقته جراء تأجيل تنفيذ الحكم القضائي .


آخر تعديل: الثلاثاء، 21 مايو 2024، 1:53 PM