المفهوم ووجوده عند الإيطاليين

إن العبارة ذاتها تعنى (البعث الجديد). وليس هناك شك في أن الإيطاليين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر اعتبروا زمنهم هذا من الرفعة والسمو ما يفوق كل العصور السابقة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية (أي لحوالي ألف سنة خلت) ، وفى هذا تكاد الأجيال اللاحقة تتفق في الرأي على أن فكرة البعث الجديد للآداب والفنون بعد سبات طويل هي فكرة إيطالية بامتياز . نتلمس ذلك في فقرة مقتبسة من رسالة كتبها مارسيليو فيشينو إلى بول من ميدلبرغ في العام 1492م يقول فيها : '' إن هذا القرن لهو العصر الذهبى الذي أعاد النور إلى الفنون الحرة التي كادت أن تندرس : النحو والشعر والبلاغة والرسم والنحت والعمارة والموسيقى والغناء القديم على الحان قيثارة أورفيوس وكل هذا حدث في فلورنسا . إنجازات هذا القرن محط فخر الأولين واعتزازهم ، لكنها اندثرت منذ ذلك الحين . لقد قرن ذلك العصر الحكمة بالفصاحة والحصافة بالفن الحربى . وهذا ما تألق على أشده في فيدريكو، دوق أوربينو، وكأنه يعلنه في حضرة بالاس نفسها . . فيك أيضا ياعزيزي بول ، يبدو أن هذا القرن قد حقق الكمال في الفلك ، واسترد في فلورنسا ؛ تعاليم أفلاطون من الظلمة إلى النور. .''.

وقبل نصف قرن من ذلك الزمان عَبّر ''لورينزو فالا'' عن مثل هذه الأفكار في عرضه لتمامية اللغة اللاتينية قائلا: " لقد كُتب على الألق اللاتيني أن يهوى إلى الحضيض، إلى الصدأ والعفن ، والحق ، إن للحكماء آراء متعددة في كيفية حدوث هذا . أنا لا أقرَ أياً من هذه الآراء ولا أرفضه. لكنى أجرؤ على القول فقط، بتجرد واتزان، أن الفنون التي تنتمي أكثر ما تنتمي للفنون الحرة ، وهي فنون الرسم والنحت والنمذجة والعمارة ، قد انحطت انحطاطاً كبيراً ، ولفترة طويلة ، بل كادت أن تختفي باختفاء الآداب ذاتها ، لكنها في هذا العصر بُعثت إلى الحياة من جديد ، وازداد عدد الفنانين الجيدين أضعافاً وكذا رجال الأدب المتألقين اليوم''.

إذاً فقد نُظر إلى عصر النهضة من زاويتي انتعاش الأدب اللاتيني الرصين والفنون التشكيلية بعامة . وأحد أسباب هذه الأهمية البالغة التي يضفيها رجال ذلك العصر على الاستخدام اللاتيني الأمثل يكمن في حقيقة كونه اللسان المشترك للطبقة المثقفة ‏ وهي تؤلف نسبة صغيرة جداً من السكان في أي بلد . وهناك سبب آخر أقل ظهوراً ، هو أن الدول الاوربية الجديدة كانت في طور التكوين وبعضها ، مثل فرنسا وإنجلترا ، ذات ملكية مركزية ، والبعض الآخر ، مثل أغلب الدويلات الإيطالية ، ذات مجتمعات تجارية مستقلة . وهذه الدول كانت بحاجة إلى طبقة إدارية محترفة ، متمرسة بالقانون الروماني جيداً الذي كان ما يزال نافذاً . ولقد كان أبناء هذه الطبقة لامحالة هم أرباب المعرفة العلمانية الجديدة التي ، مثلها مثل الدراسات الكهنوتية المحترفة ، كانت قائمة على اللغة اللاتينية .

ﻋﺎدة ﻣﺎ اقترن ﻋصر اﻟﻨﻬﻀﺔ ﺑﺪوﻳﻼت المدن اﻹﻳﻄﺎﻟﻴﺔ ﻣﺜﻞ ﻓﻠﻮرﻧﺴﺎ، وﻟﻜﻦ درﺟﺔ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺘﻲ احتلتها إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﺣﺠﺒﺖ ﺗﻄﻮر اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺠﺪﻳﺪة في ﺷﻤﺎل أوروﺑﺎ وﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮة أﻳﺒيرﻳﺎ واﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ وﺟﻨﻮب شرق آﺳﻴﺎ وأﻓﺮﻳﻘﻴﺎ. وﻟﻜﻲ ﻧﻌﺮض ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻋصر اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﻋﺎلمي ﺷﺎﻣﻞ، ﺳﻴﻜﻮن ﻣﻦ اﻟﺪﻗﺔ أن ﻧﺸير إلى ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ ﻋﺼﻮر ﻧﻬﻀﺔ في ﺗﻠﻚ المناطق، واﻟﺘﻲ ﻋﻜﺲ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﻤﻴﺰات ﺗﻠﻚ المناطق وﺳﻤﺎﺗﻬﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ. وﻋﺼﻮر اﻟﻨﻬﻀﺔ في ﻫﺬه المناطق ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺘﺪاﺧﻞ وﺗﺘﺒﺎدل اﻟﺘﺄﺛر ﻣﻊ ﻋصر اﻟﻨﻬﻀﺔ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ المعروف اﻟﺬي اﺗﺨﺬ ﻣﻦ إﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻣﺮﻛﺰًا ﻟﻪ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻋصر اﻟﻨﻬﻀﺔ ﻇﺎﻫﺮة دوﻟﻴﺔ وليس أوربية فقط ﺳﻠﺴﺔ وﻣﺘﻨﻘﱢﻠﺔ ﺑﺼﻮرة ﻣﺘﻤﻴﺰة.